الفرح بالكرة

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 5 فبراير 2010 - 10:24 ص بتوقيت القاهرة

 فرحت طبعا، مثلما فرح ملايين غيرى من المصريين، بانتصار مصر فى مباراة كرة القدم الأخيرة فى أنجولا، وفوزها بكأس أفريقيا. ولكنى أريد أن أعترف للقارئ بأمرين:

الأول: أنى لم أجلس للتفرج على المباراة مثلما فعل ملايين المصريين، بل اكتفيت بالسؤال عن النتيجة عندما قدرت أن وقتا كافيا قد مر على بداية المباراة.

السبب ليس أنه كان لدى عمل مهم يمنعنى من التفرج على المشاهدة، كل ما هنالك أن لهفتى على متابعة ما يحدث فيها دقيقة بدقيقة لم تكن كلهفة غيرى، كما أنى أشفقت على نفسى من التوتر العصبى الذى كان لابد أن أشعر به جراء هذه المتابعة.

والثانى: أن فرحى بالنتيجة كان أقرب إلى الارتياح لعدم حدوث خسارة، منه إلى الشعور بالفخر بالفوز. ذلك أنى اختلفت مع الكثيرين الذين يرون فى لعبة كرة القدم مقياسا مهما للتقدم والتخلف، ومن ثم يعتبرون أن الفوز فى مبارياتها دليل على شىء عظيم يستوجب الفخر بالنفس.

المسألة فى نهاية الأمر ليست فى رأيى إلا لعبة، وهى فوق ذلك ليست لعبة بالغة الصعوبة. نعم، إنها تحتاج إلى بعض المهارات، بعضها لا يكتسب إلا بالكثير من المران والتعب، كما أنها تحتاج إلى حد أدنى من التعاون بين أعضاء الفريق، ومن الانضباط، وبعض الدهاء فى التعامل مع أعضاء الفريق الآخر، فضلا بالطبع عن درجة لا يستهان بها من اللياقة البدنية.

كل هذا صحيح، ولكن كل هذا يبدو غير متناسب بتاتا مع درجة الأهمية التى يعلقها على هذه اللعبة، هذا العدد الغفير من الناس، ودرجة الحماس الذى يبدونه للنتيجة التى تسفر عنها، سواء بالفرح أو بالحزن. لابد أن فى الأمر أشياء أخرى ليست واضحة تماما.

أضف إلى هذا، ذلك الربط المدهش بين الفوز فى لعبة ككرة القدم، وبين الشعور القومى والولاء للوطن. من الممكن أن تتصور أن يشتعل الحماس للوطن لدى الانتصار فى حرب من أجل قضية يؤيدها الناس، أو للنجاح فى اقتحام الفضاء أو النزول على القمر، أو اكتشاف أحد مواطنينا اكتشافا عبقريا أو اختراعه اختراعا يفيد العالم بأسره، أو حتى فوز أحد مواطنينا بجائزة نوبل فى الأدب أو العلم.. إلخ،

كل هذا من المتصور أن يثير الحماس للوطن، إذ قد يدل على استبسال الجنود فى الحرب، أو على الشجاعة والاستعداد للتضحية من أجل الوطن، أو على تقدم كبير فى العلم أدى إلى الاكتشاف أو الاختراع أو الفوز بجائزة عالمية. ولكن أين موقع الانتصار فى مباراة لكرة القدم من هذا كله؟

بصراحة، إنى أعتقد أن الحماس العارم للفوز فى مباراة لكرة القدم يرجع إلى جماهيرية هذه اللعبة، أكثر من أى اعتبار آخر. الأمر فى نظرى شبيه جدا بالحماس لنجمة محبوبة أو نجم محبوب من نجوم السينما.

قد تكون الممثلة جميلة وقد يكون الممثل ممثلا قديرا، ولكن لا الجمال ولا جودة التمثيل هما المسئولان عن درجة الحماس، بل محض الشهرة. والشهرة تجلب المزيد من الشهرة، والحماس يجلب المزيد من الحماس.

فالمرء منا يصبح أكثر حماسا لقضية ما إذا وجد نفسه واحدا من آلاف من الناس يسيرون فى مظاهرة، تهتف لهذه القضية، بالمقارنة بدرجة حماسة لنفس القضية وهو قابع وحده فى منزله. لا شك إذن أن جهاز التليفزيون مسئول مسئولية كبرى عن الانشغال بمباريات كرة القدم، وعن زيادة الحماس لها، ومن ثم فهو مسئول أيضا عن ارتفاع درجة الحماس فى التعبير عن «الولاء للوطن»، عندما يكون «الوطن» طرفا فى المباراة.

لابد أن نعترف أيضا بأن المناسبات التى تصلح لإثارة الحماس للوطن أصبحت الآن أقل كثيرا مما كانت فى الماضى. ليس فيما يتعلق بمصر والعرب وحدهم، بل الظاهرة عامة فى العالم كله لأسباب لا مجال الآن للخوض فيها. ولكن، إذا كانت مناسبات التعبير عن الولاء للوطن قد أصبحت أقل، فإن الشعور بالحاجة إلى «التعصب»، وتأكيد «الانتماء» لمجموعة من الناس، شعور أعمق وأكثر رسوخا، أيا كانت وجهة التعصب وموضوع الانتماء.

فإذا لم يكن تعصبا أو انتماء لشعب أو أرض أو جيش، فلماذا لا يصبح تعصبا وانتماء لفريق لكرة القدم ضد فريق آخر؟

ليس من المستغرب إذن، والحال كذلك، أن يستغل السياسيون مباريات كرة القدم لزيادة ما لهم من شعبية أو حتى للحصول على شعبية لم يتمتعوا بها أصلا. فإذا كان الحاكم قد وصل إلى الحكم بالقوة، ودون استناد إلى إرادة شعبية، فإن مما يفيده (أو هكذا يظن) أن يقرن اسمه وصورته بهؤلاء اللاعبين العظماء الذين انتصروا فى مباراة لكرة القدم، عسى أن تترك شعبيتهم بعض الأثر على شعور الناس نحوه.

فالحاكم فى هذه الحالة يبالغ فى الاحتفاء بهؤلاء اللاعبين، وينعم عليهم بمختلف الأوسمة والنياشين، محاولا بذلك أن يظهر أمام شعبه بمنظر من يشهر بنفس ما يشعر به الناس، يفرح لما ىفرحهم، ويحزن لما يحزنون له.

بل وترى الحاكم فى هذه الحالة يبالغ أيضا فى ربط اسم الوطن بما حققه فريق كرة القدم من انتصار، آملا فى أن يرسخ فى أذهان الناس أن ما تحقق من انتصار فى كرة القدم، هو إنجاز له نفس الأهمية التى يعلقها الناس على الإنجازات السياسية أو الاقتصادية، وآملا أىضا فى أن يرسخ فى أذهان الناس أن هذا الانتصار لابد أن تكون له علاقة ما بوجود هذا الحاكم فى منصبه فى هذه اللحظة، ومن ثم يكون لهذا الحاكم الفضل (وربما الفضل كله) فى إحراز هذا الفوز العظيم.

ليس هناك بالطبع ضرر كبير فى أى شىء من هذا، بل وربما لا يكون ثمة ضرر على الإطلاق، فالفرح مطلوب دائما، حتى إذا زاد عن حده المعقول. ولا بأس فى أن ىعم الفرح فيشمل الجميع، من عمل من أجل حدوثه ومن لم يعمل، ولكن أظن أن من المفيد، من حين لآخر، أن تسمى الأسماء بأسمائها الحقيقية، وأن توزع التهانى بالعدل.





هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved