المكون العسكرى فى صنع السياسة الخارجية.. النموذج الأمريكى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 5 مارس 2015 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

لا نخطئ أو نبالغ إذا قدرنا أن الولايات المتحدة بصدد إجراء عملية تقييم شاملة لمجمل سياساتها الخارجية والدفاعية، وتطوير أساليب تنفيذ هذه السياسات والإمكانات المخصصة لها. يدفعنى إلى هذا التقدير وإلى إيلائه الاهتمام اللازم أن نقاشا حارا يدور منذ فترة حول مكانة الولايات المتحدة فى النظام الدولى، وحول علاقة هذه المكانة بالإمكانات المادية والبشرية المخصصة لمسائل الأمن والدفاع، وحول التغيرات التى أصابت العلاقة التقليدية القائمة بين الجيش والشعب وأثرها على مستقبل الأمن القومى الأمريكى.

يدفعنى كذلك إلى الاهتمام بهذا الموضوع حاجتنا الضرورية فى ظروفنا الراهنة الداخلية والإقليمية إلى التعرف وبسرعة وعمق على النماذج المختلفة لتطور العلاقات بين القوى المدنية من ناحية والمؤسسة العسكرية من ناحية أخرى، فكثير من تصرفاتنا صارت تتحسس بأساليب وطرائق غير صحية الثغرات فى هذه العلاقة، خاصة أنه لم يعد خافيا أن قوى وتيارات ومؤسسات غير قليلة تحاول النفاذ من خلال هذه الثغرات لتحقيق مصالح وقتية، أكثرها ثبت لنا أنه لا يضع مصلحة الأمن القومى أو مستقبل مصر فى اعتباره.

***

أتابع النقاش الدائر فى أمريكا ليس فقط لأهميته على الصعيد الفكرى والسياسى ولكن لأن حصيلته ونتائجه سوف تصب فى النهاية فى ساحة الأمن والسلم فى الشرق الأوسط، وبدرجة واضحة، وتكاد تكون مؤكدة، فى مستقبل مصر العسكرى والسياسى.

أحد فصول النقاش يركز على ضرورة إعادة النظر فى سياسة خفض الإنفاق العسكرى. لم يكن غريبا أن تنطلق الدعوة لإعادة النظر هذه من مراكز البحوث ومواقع العصف الفكرى اليمينية باعتدال والمحافظة بتطرف، وكان تركيزها، ولايزال، على ضرورة الاستعداد بالضغوط المختلفة على الكونجرس والإدارة الأمريكية لإلغاء نسبة الخفض بل ورفع مستويات الإنفاق فى جميع المجالات التى خضعت لترشيد الإنفاق. كثيرة هى الحجج والمبررات، ولكن اقتصر أهمها على النواحى التى حظيت باهتمام النخب السياسية الأمريكية أخيرا وبخاصة نخبة السياسة الخارجية.

مازالت تتردد حقيقة أن السنوات الست من ولاية الرئيس باراك أوباما شهدت تنفيذ سياسة معتمدة ومخطط لها ومعلن عنها خلال الحملة الانتخابية التى جاءت به رئيسا. تهدف السياسة أساسا إلى أن يكون تركيز الاهتمام والانفاق على عمليات البناء الداخلى وخفض مستوى الاهتمام بالخارج.

وعد المرشح الديمقراطى، وكان أوباما، بأنه ينوى إن فاز فى الانتخابات سحب قوات أمريكا من العراق، والاستعداد لسحبها من أفغانستان، وإغلاق عدد من القواعد العسكرية الأمريكية فى الخارج. وبالفعل، وعند التنفيذ، جرى تخفيض عدد الجنود وجمدت عقود عديدة مع شركات تصنيع سلاح، وتأجلت مشاريع تحديث قطاعات عسكرية بعينها وبخاصة فى مجال السلاح النووى والطاقات المتطورة.

***

النتيجة بعد ست سنوات من تنفيذ هذه السياسة، كما يزعم اليمينيون والمحافظون ومسئولون كبار فى البنتاجون، تراجع فى مكانة أمريكا فى الخارج، وصعوبات جمة واجهت جهود المحافظة على الأمن والسلم فى أقاليم بينها ومنها الشرق الأوسط، وإنهاك شديد للقوة الأمريكية الناعمة مثل الدبلوماسية. صحيح أن السنوات الست شهدت أزمات عويصة، أهمها الأزمة المالية التى صاحبت تولى أوباما الحكم، وبعدها مباشرة انفجرت الثورة العنقودية فى الشرق الأوسط، وهى الثورة التى تسببت فى حالة ارتباك أصابت منظومات الأمن القومى فى عديد الدول الغربية، ومازال الارتباك قائما فى ظل هيمنة جماعات التطرف، وأغلبها تضخم فى رحم الثورة المضادة لثورات الربيع، وبفضل سوء أداء قوى غربية وشرق أوسطية عند تعاملها مع ثورات الربيع.

***

الارتباك الحادث الآن، والغموض المحيط بالسياسات الغربية عموما والأمريكية خصوصا إزاء أزمة الربيع العربى والإرهاب الإسلامى، كشفت عن ضعف خطير فى هياكل وخطط المؤسسة العسكرية الأمريكية، وفى هياكل وأولويات الحلف الأطلسى. كشفت أيضا عن تطور لا يقل خطورة فى العلاقة بين المؤسسة السياسية الحاكمة فى واشنطن والمؤسسة العسكرية، أحدهما أو كلاهما أثارا موجة من الأسئلة تتعلق بدور العسكريين فى صنع السياسة، وبشكل خاص بالتغير الذى طرأ على العلاقة بين الشعب والعسكريين.

***

عدنا نسمع عن مسئولية تراجع المكانة، رأى يعتقد أن خفض الإنفاق العسكرى من ناحية، وتراجع عدد وأهمية الانتصارات الملموسة للجيش الأمريكى فى العقود الأخيرة، يتصدران أسبابا مهمة تقف وراء تراجع المكانة. إن مجرد الشعور بأن المؤسسة العسكرية الأمريكية تتعرض منذ ستة أعوام إلى خفض فى ميزانيتها وتقليص فى قوتها كفيل بأن يؤثر سلبا على صدقية السياسة الخارجية الأمريكية، ويحبط كثيرا من أهدافها ويضعف الثقة فيها.
يعتقد رأى آخر بأن القيادة السياسية الأمريكية، وعت منذ سنوات غير قليلة إلى حقيقة أن العالم يتغير وأن القوة الدولية صارت أكثر انتشارا وأن قوى عظمى جديدة على طريق النهوض.

استنادا إلى هذا الوعى الواثق والمؤكد فكرت هذه القيادة السياسية فى أن الطريق السليم لوقف تدهور المكانة لن يكون بزيادة الإنفاق على العسكرية الأمريكية، ولكن بزيادة الإنفاق على البنى الأساسية فى المجتمع الأمريكى، واستعادة القوة والنشاط والحيوية إلى الحياة الاقتصادية. بهذا المعنى، نفهم أن مسئولية تراجع المكانة تقع على عاتق الرئيس أوباما نتيجة اقتناعه، ومن معه، بأن الأهم فى هذه المرحلة هو إعادة بناء الأمة داخليا قبل تأمينها خارجيا.

سيبقى هناك دائما من يتهم أوباما بأن سياسته أدت إلى ضياع شبه جزيرة القرم، وإلى تعميق الأزمة الأوكرانية، وإلى عودة القلق إلى دول شرق أوروبا ودول البلطيق، وإلى انكشاف أوروبا فى المواجهة مع روسيا، وإلى تقارب روسى صينى. يتهمونه أيضا بأن سياساته سبب فى أزمة إرهاب شرق أوسطية، يعترف هو بنفسه بأنها لن تجد حلا قبل سنوات عديدة.

***

يتوسع النقاش مع اقتراب نهاية ولاية أوباما والاستعداد لميزانية دفاعية جديدة. توسع النقاش إلى درجة عادت عندها تيارات سياسية لمناقشة مسلمات كان الظن أنها لم تعد تتحمل النقاش. يقولون، وبصوت عال، ما فائدة قوات مسلحة: ترسانة نووية وحاملات طائرات وغواصات بعيدة المدى وأساطيل طائرات بدون طيارين وقواعد عسكرية وتسهيلات وامتيازات ومرتبات تقاعد، لجيش لا يحارب أو هكذا قرر الرئيس أوباما. وإذا كان الجيش الأمريكى لن يحارب فما حاجته إلى ميزانية كبيرة، وما معنى أن يضغط سياسيا وإعلاميا ويتدخل فى صنع أو عرقلة سياسات بعينها.

***

من ناحية أخرى، لا يخفى على مراقب من الخارج حقيقة أن فكرة «البطل» التى حاول إعلام الجيش الأمريكى تثبيتها فى العقل الشعبى الأمريكى، تراجعت مع تراجع مكانة المؤسسة العسكرية. لم يعد الجيش، كما كان فى أوقات ماضية، مصدرا أوحد لأساطير الوطنية والبطولة والشجاعة النادرة، وبالتالى أصبح فى حاجة ماسة إلى حملات إعلامية متطورة وجهود خارقة لتحسين الصورة، ليستطيع من ناحية الضغط على المؤسسات المدنية ليحصل على النصيب المتميز فى ميزانية الدولة. المؤكد فى كل الأحوال أن المؤسسة العسكرية الأمريكية لم تعد قادرة على تحقيق الإنجازات والانتصارات المذهلة إعلاميا على الأقل، التى كانت تحققها، أو تزعم بتحققها، فى حروب سبقت حربى العراق وأفغانستان، وهما الحربان اللتان أساءتا بشدة إلى سمعة المؤسسة العسكرية الأمريكية.

***

يضيف باحثون أمريكيون حقيقة أخرى، وهى أن الجيش الأمريكى أصبح يتكون من أفراد ينتمون لطبقات من نوع مختلف عن الطبقة التى كان يتشكل منها قبل عقود. وصف أحدهم جيش أمريكا فى حالته الراهنة بجيش «قبائلى»، بمعنى أن أفراده ينتمون إلى جماعات صغيرة، ابتداء من العائلة ومرورا بالأقليات حيث البطالة تنتشر وحيث يكثر طالبو التطوع مقابل الحصول على الإقامة والهجرة. هنا يكمن السبب فى ظاهرة انحسار الولاء للوطن لصالح الولاء للجماعة والعائلة واللون والعرق.

***

تمر السنون والعقود، ويبقى الباحثون فى الشئون العسكرية منتبهين لأقوال الرئيس الأسبق الجنرال دوايت أيزنهاور وبخاصة تحذيره الشهير فى خطاب الوداع بضرورة ابتعاد العسكريين عن السياسة، وتساؤله الأشهر تحت عنوان: «ماذا يمكن أن يحدث لو أن النفوذ السياسى للجيش ازداد فى غياب الرقابة والقيود؟». تثار هذه الذكريات بمناسبة ارتفاع أصوات قريبة من المؤسسة العسكرية الأمريكية أو متعاطفة معها تدعو إلى زيادة الإنفاق على الأمن القومى واشتراك العسكريين بدور أكبر فى صنع السياسة، وبخاصة بعد أن تبين، حسب رأى هؤلاء، الفشل المؤكد للسياسة الخارجية، منزوعة عنها هالة القوة العسكرية الهائلة، فى حماية الأمن الأمريكى واستعادة مكانة أمريكا الدولية.

يطلبون عودة قوات أمريكية إلى أوروبا وإلى العراق وبقاء عدد أكبر من القوات فى أفغانستان والتدخل الحاسم ضد داعش.

***

جارٍ البحث عن معادلة تضمن العودة إلى دعم الجهود الدبلوماسية بقوة عسكرية مناسبة، بشرط الانتباه الكامل والمتواصل لخطورة الفخ الذى حذر من الوقوع فيه الجنرال الحكيم أيزنهاور..

اقتباس
نفهم أن مسئولية تراجع المكانة تقع على عاتق الرئيس أوباما نتيجة اقتناعه، ومن معه، بأن الأهم فى هذه المرحلة هو إعادة بناء الأمة داخليا قبل تأمينها خارجيا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved