مدينة لكل طائفة

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الأحد 5 مارس 2017 - 11:30 م بتوقيت القاهرة

لن تستطيع أن تنتقل من مدينة أوروبية إلى مدينة أمريكية إلا وتسمع عنهم أو تجدهم هناك.. هم المغتربون الراحلون منذ 2011 وتداعياتها. دفعة أخرى من الاغتراب العربى هنا وهناك.. يتابعون بشغف أخبار الوطن وأحيانا كثيرة بحسرة وهم يسترجعون الأيام الجميلة فى ربيع لم يدم طويلا بل انتكس سريعا وحولهم إلى مطاردين أو لاجئين ومغتربين.

وحين ارتحلوا أبقوا بعض الخيوط هنا وهناك.. يرسلون بكتاباتهم، كلماتهم، مقالاتهم أو صورهم ليس فقط عبر حساباتهم على تويتر والفيسبوك وغيرها بل فى بعض الصحف التى لم تسقطهم من حساباتها لبعض الوقت ثم ما لبثت وأن ضاقت بهم أيضا.

***

كتب هو عن تلك المعاناة، ذاك الذى كان هو الأشهر والأكثر انتشارا ينتقل كالنحلة من ندوة إلى أخرى يتحدث طويلا عن الحقوق الأساسية للجميع ويدافع بشراسة عن الحق فى المشاركة ورفع الظلم عن الجميع دون تمييز.. حتى هو أصبح يعانى من الغربة ويكتب عنها وعما فعلت به هو وأسرته وكيف حولت حياتهم إلى مساحات ضيقة جدا ومحدودة.

كلهم لا يستطيعون إلا أن يعبروا عن حنين لتلك الأيام التى لم تطل بل ابتعدت فأصبحت ذكرى وموضوع للعديد من المحاضرات والكتب العلمية والشعرية.. كلهم دون استثناء ينتقلون من هنا إلى هناك ويلتقون أو يتفرغون والحزن يغلفهم.. كلما قالوا إن الغيمة قد انزاحت كلما اكتشفوا أنها أعمق وأكبر من أن تبتعد عن سماواتهم المغلفة بالرمادية.


لا يدفعهم إلى الابتسامة أو الأمل أحيانا سوى أنهم لا يزالون قادرين على الكتابة والبحث والنقاش بحرية دون أن يخافوا من «الرقيب» أو الآذان المنصتة أو العيون المتربصة والزنازين المعتمة التى تنتظر القادمين جماعات جماعات حتى ضاقت بهم وارتصت الأجساد الواحد ملاصق للآخر!! مشاهد قد تبعث مزيج من المشاعر.. شعورهم بأنهم استطاعوا أن ينجوا من جحيم البقاء فى المساحات الضيقة ورحلوا إلى الفضاء الأوسع، وشعورهم بالحزن الشديد على الباقين هناك ممن يدفعون الأثمان بأشكال متنوعة كل يوم.

***

ليسوا جميعا من جيل ميادين 2011 بل بعضهم من المخضرمين فى الحكم ولكنهم وعندما رفعت الأصوات عالية «حرية، كرامة، وعدالة اجتماعية» اختاروا أن يكونوا فى صفوف الجماهير «كل البشر» بدلا من الوقوف مع الأقلية الرابضة فوق الكراسى الوثيرة.. هؤلاء الآخرون اضطروا للرحيل عندما كانوا يغردون خارج أسراب حملة الاختام.. هؤلاء الذين وهم فى الربع الأخير من العمر يسخرون من القادم بعد أن ملأ الحزن والحسرة قلوبهم المهمومة أصلا.. هؤلاء الذين لن يعرفوا أوطانهم التى كانت ولن يتمكنوا من تحضير كفن وشبر أرض ليدفنوا فيه وفوق تراب ما كان يسمى الوطن، الوطن الذى أصبح اليوم ممزقًا حسب الولاءات والطوائف وطن لكل طائفة، أو ربما مدينة أو شارع لكل دين أو عرق أو مذهب!!

***

أحدهم الذى تحدث معنا طويلا ونحن نسير فى شوارع نيويورك المكتظة ــ عندما قررت الشمس أن تفاجأهم فى شتاء لم يعرف إلا الكثير من الثلوج، فخرجوا جميعا إلى الطرقات والأرصفة فى احتفالية بالشمس والدفء النادرين فى هذا الموسم القارس البرودة ــ راح يتحدث عن آخر الكتب وأهمها، وعن تجاربه ومن بينهم الكثير من الحكايات النادرة عن السياسة التى عرفها عندما كان ركنًا هامًا من ذاك النظام، وعندما كان يؤمن أنه ربما يأتى الاصلاح من الداخل وليس من خارج منظومة الحكم.. لم يكن يتحدث عن الفشل بل عن الانكسار وعن بلاد كانت تحمل العنب والتين وكثيرا من الثمار.. عن جبال تحتضن الغيوم ووديان لا تعرف إلا صوت الماء العذب.. كلها أصبحت مسرحا لمعارك عنيفة.. كلها تحولت إلى أرض محروقة فى الحرب العبثية المنسية.. تحدث كثيرا عن القنابل التى تسمى بالأسلحة الذكية قال الكثير عن غبائها وعن اصطيادها للمدنيين من نساء وأطفال وشيوخ. بينما المسلحون القابضون على بنادقهم الحديثة الصنع يتمتعون بخيرات البلد وعلى بعد أمتار منهم تعيش البلاد مجاعة لم تعرف منذ الحرب العالمية الثانية والاعلام العربى قبل العالمى لا يجدها مادة للحديث عندما يكون هو الخصم والحكم!
يبقون هم يقيسون المسافات بين تلك البلاد البعيدة وما يسمى بالوطن.. يتركون قلوبهم الحزينة هنا ويرحلون والحزن يسكنهم دوما ولا يفارقهم أبدا.. كم غرباء هم هناك وكم غرباء نحن بأوطاننا التى تحولت إلى مزارع!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved