السلطوية المطلقة.. والسلطوية المقيدة

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 5 أبريل 2018 - 10:35 م بتوقيت القاهرة

من أعجب الذرائع،وأكثرها تهافتا للترويج للسلطويةــ التى تحاول تجديد مشروعها بعد الربيع العربىــ ربط هذه المحاولة بما يوصف بأنه اتجاه عالمى نحو السلطوية، حتى فى أعرق المجتمعات ديمقراطية.

التهافت يثبت تلقائيا من حقيقة لا مراء فيها، وهى أن السلطوية العربية ظلت منيعة ضد كل موجات التحول الديمقراطى فى العالم شرقا وغربا،وشمالا وجنوبا بعد الحرب العالمية الثانية،ومن ثم فهى ظاهرة قائمة بذاتها،ولاسبابها المحلية،وبخصائصها المختلفة كما سنرى توا، بل وتقاوم دائما المتغيرات الداخلى منها والخارجى،أو تتحايل عليها.

من زاوية نظر أخرى فمثلما أن النظم والتجارب الديمقراطية فى العالم،وعبر التاريخ ليست متطابقة تماما، فإن النظم والتجارب السلطوية ليست – هى الأخرى – نسخة متكررة، لافى الأسباب، ولافى الأداء، ولافى النتائج.

كذلك فإن الزخم الحالى للظاهرة ليس جديدا كلية،فى حقبة ما بعد الفاشية والنازية فى أوروبا و أمريكا، على نحو ما توحى به الكتابات الصحفية، والدراسات الأكاديمية.

مثلا ألم تكن السلطوية هى جوهر دستور الجنرال ديجول للجمهورية الخامسة الفرنسية،وكذلك جوهر أدائه ونظام حكمه ؟ وما الذى مثلته قيادة السيدة مارجريت تاتشر للحياة السياسية البريطانية طوال عقد الثمانينيات فى القرن الماضى، إن لم يكن تطبيقا لنزعتها السلطوية ؟وأيضا ألم ينجح الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الابن فى فرض شكل من أشكال السلطوية فى بلاده فى أعقاب هجمات الحادى عشر من سبتمبر الإرهابية على نيويورك وواشنطن، مكرها الجميع فى الداخل الأمريكى،والكثيرين فى الخارج على تأييد خططه لغزو العراق ؟

وكما نعلم فقد سقطت سلطوية ديجول بعد عشر سنوات، ليس فقط لضجر الناخبين من النزعة السلطوية للجنرال، ولكن أيضا لتمرد نخبة نظامه الحاكم نفسه على هذه النزعة، بقيادة رئيس وزرائه (المعزول آنذاك) جورج بومبيدو، الذى امتلج الشجاعة قبيل الاستفتاء ليعلن أنه سيرشح نفسه للرئاسة إذا اعتزلها ديجول، فى تحريض واضح للناخبين على رفض مقترحات الرئيس، أو عدم الموافقة عليها بالأغلبية المشترطة.

ونعلم أيضا أن سلطوية تاتشر سقطت هى الأخرى بعد حوالى عشر سنوات كذلك، حين تمرد وزراؤها، وزعماء حزبها على محاولتها فرض نظام ضرائب الرئوس، بديلا للنظام الضريبى المتبع، على الرغم من معارضة أغلبية الرأى العام، وأغلبية النواب،مما أجبرها على الاستقالة.
وأما سلطوية بوش الابن،فقد سقطت بدورها سقوطا مدويا فى انتخابات نصف مدته الرئاسية الثانية للكونجرس، حيث أجبرته الخسارة الضخمة لحزبه الجمهورى، على الاطاحة بوزير دفاعه دونالد رامسفيلد،وبقية صقور إدارته، كما أجبرته على التخلى عن عسكرته للسياسة الخارجية، بعد أن اتضحت العواقب الوخيمة لغزو العراق، والأكاذيب التى بررت هذا الغزو،وليتحول بوش نفسه إلى «بطة عرجاء «بالتعبير الأمريكى الشائع،طوال ما تبقى من رئاسته.

الشاهد الذى يهمنا، فى هذه الأمثلة الثلاثة،ليس مجرد إثبات تعرض أعرق الديمقراطيات فى بعض المنعطفات التاريخية لمحنة السلطوية، ولكن أيضا إثبات أن هذه المجتمعات ونظمها الحاكمة لديها من الآليات والتقاليد والخبرات والمؤسسات ما يمنع من تركيز القوة السياسية فى مكان واحد، أو شخص واحد،أو مؤسسة واحدة، لفترة أو لفترات طويلة.
وبالطبع فلسنا بحاجة إلى مزيد من التأكيد على أن هذا النمط من السلطوية المقيدة – إن جاز التعبيرــ لايعطى القوانين إجازة،ولا يتدخل فى القضاء،ولايزور الإنتخابات، ويحاصر المعارضة السلمية، ويضطهد المجتمع المدنى، ولايعين ويقيل مسئولى الحكم المحلى، ولايخضع –فضلا عن أن يملكــ الصحف ووسائل الاعلام.
قبل الانتقال إلى الحديث عن نوع آخر من السلطوية المقيدة،وعن السلطوية المطلقة، تجدر الإشارة إلى اختلاف أسباب الظاهرة فى أوروبا عنها فى الولايات المتحدة، وعنها فى بقية أنحاء العالم.
فى أوروبا يوجد نوعان من الأسباب:الأول بروز اختلالات خطيرة فى نظام دولة الرفاه الاجتماعى المطبق هناك بعد الحرب العالمية الثانية، إذ أدى ازدياد معدلات الإعمار،وانخفاض معدلات المواليد إلى إرهاق النظام التأمينى، وأدى تعميم التأمين الصحى إلى سوء استغلاله من جانب المرض والأطباء والمستشفيات، كما شجعت اعانات البطالة نسبا كبيرة من السكان على الخروج من سوق العمل، وكانت محصلة كل ذلك عجزا مطردا فى الموازنات العامة، ومن ثم تضخم المديونيات الحكومية،لدرجة اقتراب بعض الدول من الافلاس، مما تطلب سياسات تقشفية صارمة آلمت الفقراء، وبدلا من التركيز على اتساع الفجوة فى الدخول لمصلحة الأغنياء هناك، بسبب جموح السياسات الاقتصادية المسماة بالنيوليبرالية، فإن هؤلاء الفقراء شاركوا الأحزاب والحركات الفاشية والعنصرية لديهم فى الاعتقاد بأن الهجرة الملونة الكثيفة إلى بلدانهم هى أحد أهم أسباب تردى أوضاعهم المعيشية، ولتختلط الدوافع الاقتصادية بالدوافع الثقافية والعنصرية فى تشكيل النوع الثانى من أسباب ظاهرة المد السلطوى اليمينى فى مجتمعات أوروبا الغربية الديمقراطية.

وفى هذه النقطة الأخيرة بالذات يأتى التشابه بين ظاهرة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وبين مثيلاتها الأوروبية، لكن السؤال الأولى بالاهتمام من وجهة نظرنا يبقى هو: أليس الوقت مبكرا جدا للادعاء بأن السلطوية المتجددة هى موجة المستقبل المنظور؟ أو على الأقل ألايجب الانتظار حتى موعد انتخابات التجديد النصفى للكونجرس الأمريكى فى نوفمبر المقبل، وانتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة لتأكيد أو نفى هذا الإدعاء ؟، فضلا عن انتظار مآلات التجارب المماثلة فى بعض الدول الأوروبية، خاصة إيطاليا.

وفى كل الأحوال، ومهما تكن المآلات، فالذى لاشك فيه أن هذا النمط من السلطويات الأوروــ أمريكية – سوف يبقى دائما مقيدا بما سبق ذكره من آليات وتقاليد وخبرات ومؤسسات.
من المفهوم إذن أن أسباب وخصائص السلطوية المقيدة –التى سردناها توا – ليست هى أسباب وخصائص السلطوية فى الأنحاء الأخرى من العالم، وخصوصا فى روسيا وبقية أوروبا الشرقية، وفى الصين وبقية آسيا، وفى دولنا العربية،وكذلك فى أمريكا اللاتينية، لكن المشاهد أيضا أن بعض التجارب الآسيوية والأمريكية اللاتينية قدمت نمطا آخر من السلطوية المقيدة نسبيا، بمعنى أنها ليست سلطوية فردية مطلقة،على الطراز العربى، ففى الصين مثلا، ورغم أن مؤتمر الحزب الشيوعى الحاكم الأخير ألغى القيود الدستورية على فترة شغل المنصب الرئاسى، فسيكون من التبسيط الإدعاء بأن ذلك حدث استجابة لطموح أو ضغط من الرئيس الحالى، خصوصا إذا تذكرنا أن هذا الحزب الصينى كان لديه من مصادر القوة السياسة – فى أواخر سبعينيات القرن الماضىــ ما مكنه الإطاحة ب هوا كوفينج الزعيم الذى خلف ماوتس تونج، وبحلفائه فى عصابة الأربعة، ومن اعادة دينج شياوبينج من البرارى السياسة لقيادة الحزب والبلاد إلى نهضتها المستمرة منذ تلك اللحظة، كذلك فإن تمكين آليات الرقابة الصارمة ضد الفساد فى صفوف الحزب، وداخل جهاز الدولة يشكل بدوره قيدا لايستهان به على الأداء والنفوذ السياسيين على جميع المستويات،وعلى أية حال،فقد جربوا بجدية تجربة التداول السلمى للسلطة طوال الثلاثين عاما الأخيرة،وهو ما لم يحدث فى أية تجربة عربية.

شىء من هذه الخصائص ينطبق أيضا على سلطوية لى كوان يو فى سنغافورة، وسلطوية مهاتير محمد فى ماليزيا، جنبا مع السمات الشخصية الخاصة بكل منهما، والتى تتمثل فى نفاذ الرؤية، وجدية الأداء، والنزاهة الشخصية، والايمان بالتوافق الوطنى،والأهم عدم الامعان فى القمع والإدارة البوليسية للدولة والمجتمع، وهذه أيضا قيود تحد من غلواء السلطوية الفردية، التى يتضح لنا الآن أنها أسوأ وأفشل نظم الحكم،وأكثرها تدميرا لبلدانها، والتى يتضح لنا أيضا أنها النمط السائد فى بلداننا العربية، وتذكروا فقط صدام حسين، ومعمر القذافى، وعلى عبدالله صالح، وحافظ الأسد، وابنه وخليفته بشار.. وغيرهم من قبلهم، ومن بعدهم، ومن ثم فلا معنى للقياس على تلك التجارب السلطوية البعيدة عنا لتسويغ نمطنا البائس من الحكم السلطوى.

هنا طبعا يطرح السؤال عن مصر نفسه: وأقول إننا مع بدء الولاية الثانية والاخيرة (دستوريا) للرئيس عبدالفتاح السيسى فى مفترق طرق،وأمامنا مؤشران متناقضان، فهناك دعوة قوية لتعديل الدستور لاطالة مدد الرئاسة،والغاء تحديدها بفترتين، وهناك تحذيرات قوية أيضا من مغبة هذا التعديل، ليس فقط من المعارضة، وإنما أيضا من قطاع مهم من الموالاة، وإضافة إلى ذلك يتبلور اتجاه لتشكيل حزب سياسى من الأغلبية المؤيدة، بما قد يفتح الباب أمام اعادة الروح للحياة السياسية.

فإذا كانت الأولى فهى السلطوية المعهودة، أما إذا كانت الثانية فستكون البداية التى طال إنتظارها 0

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved