البيان الرئاسى وخطيئة «الفرز» .. هى حرب سياسية.. وليست حملة تكفير للشيعة!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 5 مايو 2009 - 9:18 م بتوقيت القاهرة

 حسنا فعلت القاهرة، وبلسان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، حين أعادت توضيح موقفها من مسألة «الشبكة» المتهمة بالتآمر ضد مصر والتحضير للقيام بأعمال تخريبية و«نشر التشييع» فى البلد، وتهريب السلاح إلى المقاومة الفلسطينية فى غزة.

لقد كان هذا التوضيح، بمصدره الرسمى المسئول، ضروريا جدا حتى تعود مسألة «الشبكة» إلى إطارها الأمنى ــ السياسى المحدد والمحدود، بعيدا عن « الحرب» التى خلطت، لمدة أسابيع، السياسى بالدينى، والطائفى بالمذهبى، والقومى بالعنصرى، حتى تاه الناس فى غياهبها، ولم يعودوا يعرفون أساس الموضوع، ومن ثم كيف يخرجون منه ليتابعوا حياتهم العادية فى أمان من الفتنة التى تم إيهامهم بأنها عند عتبة بيوتهم.

فالخلاف السياسى شرعى ومشروع، لاسيما فى هذه الظروف التى يخيم فيها العجز عن القرار على المنطقة العربية قاطبة، فيتم الهرب إلى نسبة هذا العجز إلى تآمر الآخرين، أو إلى القوة الأسطورية للأعداء، والتى تفرض التسليم بأن يكون لهم حق القرار فى ما يخص الكون وشئونه جميعا... وبالتالى فلا داعى للمكابرة وادعاء استقلال القرار الوطنى، إذ يفترض هذا التصور انتهاء عصر الوطنيات والقوميات جميعا، ما عدا العنصرية الإسرائيلية القوية بسلاحها النووى والمعززة بالهيمنة الأمريكية المطلقة التى لا تقاوم والتى ستدوم حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.

كان التوضيح، وبلسان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، ضروريا جدا حتى يتوقف الخلط بين الخلافات السياسية، وهى مفهومة ومألوفة، وبين التمايز المذهبى بين المنتمين إلى الدين الحنيف الواحد من السنة والشيعة: «ليس لهذه المشكلة (الأمنية) علاقة بالانتماء الطائفى لمحازبى «حزب الله» ومناصريه «كشيعة».

فالخلط بين السياسى والدينى، بل المذهبى فى مثل الحالة التى نواجهها، يؤدى مباشرة إلى الفتنة بين المسلمين، حيث ينتشر المؤمنون بالإسلام موحدين فى الدين وإن اختلفت مذاهبهم.

وإذا كان مفهوما أن يتم مثل هذا الخلط، بالقصد المقصود غالبا وبالمصادفات نادرا، فى لبنان الذى تتعدد فيه انتماءات أبنائه الدينية والمذهبية (فى لبنان حوالى عشرين طائفة ومذهبا، معظمها تفرعات مسيحية، فضلا عن أكثريتين إسلاميتين من السنة والشيعة، فضلا عن الدروز والعلويين وبعض الإسماعيليين)..... فليس مقبولا مثل هذا الخلط فى مصر، حيث المسلمون جميعا من أهل السنة، ولا طوائف أو مذاهب إسلامية أخرى.

من هنا يمكن القول: إن مصر بتاريخها ودورها المؤثر ورصيدها الوازن أكبر من أن تكون طرفا فى لبنان الذى يسهل تحويل التنوع فيه من مصدر غنى إلى سبب للانقسام حتى حدود الفتنة.

-2-

لقد نشأ اللبنانيون وفى وعيهم، كما فى سجل الوقائع التى تحفل بها الفترات الحرجة من تاريخ الصراع السياسى المفتوح أبدا فى وطنهم الصغير، أن تكون مصر الملاذ وصاحبة الدور المؤثر فى حماية وحدتهم الوطنية.

وفى المحطات الفاصلة فى تاريخ لبنان السياسى، بدءا من إعلان استقلال الدولة التى استولدت ــ قيصريا ــ فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، واستكملت ملامحها بعد الحرب العالمية الثانية، وبرعاية فرنسية مباشرة، وأسبغت عليها أوصاف لا تليق بأى وطن طبيعى، وبالتالى أية دولة طبيعية ذات نظام ديمقراطى، كان لمصر دور مهم فى تأمين «اعتراف هادئ» بهذا الكيان الجديد...

ثم إنه كان لمصر، الملكية آنذاك، دور لا ينسى فى تأمين انتساب الدولة اللبنانية الجديدة إلى جامعة الدول العربية، التى أنشئت عشية استقلال كل من لبنان وسوريا، مع مراعاة خصوصياتها، وقبول تحفظاتها على أن تكون الجامعة إطارا لوحدة عديدة بين دول «إسلامية» الدين بمجموعها مع فرادة للبنان ككيان يحفظ لمواطنيه المسيحيين موقع الرئاسة فيه كضمان.

كذلك فإن مصر (الجمهورية بعد يوليو 1952، التى شهدت أول «انقلاب» دستورى فى لبنان أواخر صيف ذلك العام) قد تعاملت من موقع الحاضنة للاستقرار فى هذا الوطن الصغير فى مواجهة الانقسام السياسى الذى خرج إلى السطح مرارا وتكرارا، وكان يهدد فى كل مرة بالتحول إلى شقاق طائفى كفيل بأن يغرق البلاد فى حرب أهلية.

كانت مصر، الكبيرة بقلبها كما بقدرتها على التأثير، أكثر الدول العربية تفهما ورعاية لـ«بنيامين العرب» كما يحلو للبنانيين أن يسموا وطنهم الصغير، وحماية له من الخارج أحيانا، عربيا كان أم دوليا، والتأثيرات التى تهدد وحدته وكيانه السياسى.

لم تكن مصر فى نظر مجموع اللبنانيين دولة عربية كبرى بأكثرية إسلامية غالبة قد تأخذها العاطفة إلى الانحياز أو الميل فى اتجاه مخالف لإرادة المسيحيين من أبناء هذا «البيت بمنازل كثيرة» كما أطلق المؤرخ المعروف كمال صليبا على لبنان.

وبطبيعة الحال؛ فإن مسلمى لبنان لم يكونوا يستشعرون رعاية مصرية خاصة على حساب إخوانهم المسيحيين، والأهم: أنهم لم يكونوا فى عواطفهم كما فى توجهاتهم السياسية ليختلفوا فى تقديرهم لمصر ودورها على قاعدة مذهبية... فلم يكن «الشيعة»، على سبيل المثال، يشعرون بأن مصر، وهى الدولة العربية الكبرى، سنية المذهب، تعاملهم وكأنهم أقلية مذهبية، أو تشكك فى عروبتهم واستطرادا فى إسلامهم، دون أن ينتقص انتماؤهم المذهبى من ولائهم الوطنى، مثلهم فى ذلك مثل إخوانهم فى الدين الحنيف، أو شركائهم فى الوطن الذى تشكل وحدته الضمانة لاستمرار كيانه.

ولأن فى مصر، على ما يقول أهل الرأى، دينا ولا تعصبا، ولأنها فى تاريخها الإسلامى الطويل تكاد تبرأ من المذهبية.

-3-

... فلقد كان سهلا أن يعتمد الأزهر الشريف المذهب الجعفرى كمذهب خامس إلى جانب الشافعى والحنفى والمالكى والحنبلى، وأن يفتح أبوابه لطلاب العلم من الشيعة (ثم من الدروز) مكرسا صورة مصر التى تجمع ولا تفرق وتحمى ولا تبدد.

لذلك استهول اللبنانيون عموما والشيعة من المسلمين خصوصا تلك الحملة الشرسة التى انطلقت فى الآونة الأخيرة وعبرت عنها تصريحات بعض من رجال الدين وبعض منافقى السلطة، والتى كادت تخرج أهل الشيعة من الإسلام، فضلا عن إخراجهم من العروبة والتعامل معهم وكأنهم «جالية إيرانية» أو مرتدون عن الدين الحنيف لهم «مصحف» غير القرآن الكريم، ولهم رسول غير النبى العربى محمد بن عبدالله، ولهم أركان لبدعتهم خارج الأركان الخمسة للإسلام!

وبرغم طغيان المنطق السياسى على هذه الافتراءات فهى قد أساءت إلى علاقة المسلمين الشيعة فى لبنان بمصر، وأشعرتهم بأن ثمة من يريد بمصر وبهم سوءا...فمثل هذا الاتهام يسىء إلى مصر وسمعتها ودورها ورحابة الدين بأكثر مما يسىء إلى الشيعة فى لبنان، وفى سائر الدول العربية، وهم بأكثريتهم الساحقة من العرب العاربة، سواء فى لبنان أو فى العراق أو فى المملكة العربية السعودية أو فى البحرين...إلخ.

ذلك أن وقائع التاريخ لا تلغيها حملات التجنى، والإيمان الثابت لا يضعفه ولا تهزه التقولات والافتراءات.

لن ندخل فى الأنساب ومن هو الأصفى عروبة فى لبنان، وإلا لوجدنا الموارنة فى الطليعة، بمعنى أنه ليس الانتماء الدينى أو المذهبى هو الذى يحدد الهوية القومية، أى الانتساب إلى الأرومة العربية، لكن علينا أن نستذكر أن أهل الجنوب فى لبنان، وبالأساس أهالى «جبل عامل» هم الذين عايشوا النكبة الفلسطينية فى العام 1948، وهم الذين مشاعرهم فلسطينية، وأسباب حياتهم، فى ذلك الحين ذات مصدر فلسطينى، فضلا عن الارتباط العاطفى والتواصل الجغرافى الذى جعلهم ــ بالضرورة كما بالعاطفةـ ـ حاضنى طوابير الفلسطينيين الذين أخرجتهم المجازر الإسرائيلية من ديارهم، فهاموا على وجوههم، لا يجدون مأوى ولا معينا ولا نصيرا إلا من هؤلاء الإخوة اللبنانيين المختلفين أحيانا فى المذهب وأحيانا فى الدين عنهم.

كذلك علينا أن نستذكر أن هؤلاء «العاملين» هم الذين تحملوا أعباء الضربات الإسرائيلية اليومية، ثم الاجتياحات العسكرية المتكررة على مدنهم وقراهم، بعدما أشرعوا أبوابهم أمام «الفدائيين» من رجال المقاومة الفلسطينية فاحتضنوهم وكانوا لهم الأدلاء فى الذهاب إلى «عملياتهم» الجهادية، والمضيفين الذين يأوونهم ويتسترون عليهم، إن هم عادوا أحياء، متحملين الضريبة القاسية، فى الدم والرزق للانتقام الإسرائيلى المدمر.

ــ4ــ

ثم إن أبناء الجنوب هؤلاء هم الذين استمروا مرابطين فى مدنهم وقراهم حين دهمتهم الحرب الإسرائيلية فى صيف العام 1982، والتى أخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان، بعد اجتياحها الجنوب كله وبعض الجبل والعاصمة بيروت «التى احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء».

ولقد استمر الاحتلال الإسرائيلى لبعض الجنوب طوال الفترة من 1982 وحتى العام 2000، وتحت عنوان الرد عليه لإجلائه وتحرير الأرض (والإرادة) نشأت المقاومة فى لبنان، وانطلقت من جبل عامل أساسا، وكانت فى البداية تضم مقاتلين فى تنظيمات عدة، لا نبالغ إن قلنا: إنهم كانوا ينتمون إلى معظم الطوائف فى لبنان، وإن ظلت الأكثرية الساحقة من الشيعة، جنوبا وبقاعا.

فى هذا الجو بالتحديد نشأ «حزب الله» كتنظيم مقاوم.. وليس إلا بعد سنوات طويلة من الجهاد والاستشهاد حتى أكد حضوره ــ بدماء شهدائه ــ فتعاظمت شعبيته حتى غدا الحزب السياسى الأكبر والأخطر ربما فى المنطقة العربية جميعا.

لم يكن «حزب الله» جالية أجنبية أو حزبا وافدا.

صحيح أنه لقى دعما مفتوحا من سوريا وإيران الثورة الإسلامية.

وصحيح أن الدولتين قد أفادتا ــ سياسيا ومعنويا ــ من إنجازات هذا الحزب المقاوم، ولكن إدانة الشيعة حتى إخراجهم من الإسلام بذريعة أن فردا أو أفرادا من «حزب الله» تصرفوا مندفعين بحماستهم فأقدموا على ما قد يراه البعض خطأ ظلم بيّن. وكذلك فإن إنكار جهاد المقاومين من رجال «حزب الله»، الذى قدم أكثر من ألف وخمسمائة شهيد، من أجل تحرير لبنان وهزيمة العدو الإسرائيلى، ظلم فاضح.

بعد ذلك؛ يمكننا مناقشة حجم الخطأ السياسى الذى ارتكبه «حزب الله» فى مصر ومعها، وهل كان يستحق هذا الرد العاصف إلى حد الجنون أم لا؟.

والأمل دائما أن تكون مصر فى موقع «الراعى» و«الضامن» بل «الأم» التى قد تطلق الدعاء لمعاقبة من أسخطأ من أبنائها، لكنها ــ بالتأكيد ــ لا تقصد إيذاءهم بل ترشيدهم.

وهذا هو الأمل فى مصر، اليوم، مرة أخرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved