حذَّرونا ولم يفهمونا

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: السبت 5 مايو 2012 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

لا يكفى أن يقول المتحدثون باسم المجلس العسكرى إن الجيش برىء من مذبحة العباسية. ولا يليق أن يقول أحد أعضاء المجلس إن المعتصمين رفضوا عرضا من جانب السلطة لحمايتهم، والمقولة الأولى يمكن أن يقولها أى أحد، باستثناء الذين يديرون البلاد، أما المقولة الثانية فلا ينبغى أن تصدر عن أى مسئول فى الدولة.

 

ليست جديدة التصريحات التى تتمسك بتبرئة الجيش ــ والشرطة فى الغالب ــ من المسئولية عن قمع المتظاهرين وإطلاق الرصاص عليهم. فقد سمعنا هذا الكلام عدة مرات من قبل. حتى أن بعض المتحدثين الرسميين لم يغسلوا أيديهم مما يجرى فقط، وإنما ذهبوا إلى حد نفى وجود القناصة من الأساس، رغم أن مئات الآلاف شاهدوهم وهم يعتلون الأبنية ويطلقون الرصاص عليهم.

 

هذا التكرار يفقد الحجة صدقيتها، لأننا إذا قبلنا بالكلام مرة، وكذَّبنا ما شاهده الجميع ولمسوه، فإنه من العسير أن تصدق ما يقال فى كل مرة. حيث يفترض أن فى البلد أجهزة وجهات مختصة بالتحرى والتحقيق من واجبها لا أن تنفى المسئولية عن ارتكاب الجرائم، وإنما أن تضع يدها على العناصر التى ترتكبها والأصابع التى تحركها كى تحاسبها ثم تمنع تكرارها. وهى فى هذه الحالة مخيرة بين أن تمسك بخيوط الجريمة وتعلن عن المدبرين والفاعلين، أو أن تعلن عن فشلها فى ذلك ومن ثم تتنحى لكى تفسح المجال لمن هو أقدر على حمل المسئولية. أما حين لا يحدث هذا وذاك، ويطالب المجتمع بأن يقتنع بما يقال مكتفيا بالإحالة المستمرة فى كل مرة إلى «المجهول» الخفى، فذلك مما يتعذر قبوله، ناهيك عن أنه يفتح الباب واسعا إلى إساءة الظن، الأمر الذى قد يقنع البعض بأن هناك من يتستر على الفاعلين ويحميهم، سواء لأن الأجهزة الرسمية راضية عما يفعله هؤلاء المجهولون، أو أنها متواطئة معهم إن لم تكن هى التى تحركهم.

 

حين يحرص مسئولو المجلس العسكرى فى كل مرة على تبرئة الجيش ويكتفون بذلك، فإنهم يتصرفون كمتهمين على رأسهم «بطحة» يريدون إخفاءها. علما بأن الناس لم يتهموا الجيش أصلا، ولكنهم يتساءلون عن الفاعل والمدبر وصاحب المصلحة فى قمع المتظاهرين وقتلهم. وهم يميزون جيدا بين المجلس العسكرى الذى يدير البلاد ومن حقهم نقد إدارته وسياسته، وبين الجيش الذى لم تهتز ثقة الناس فيه أو احترامهم لدوره. هم أيضا يميزون بين الجيش المقاتل الذى يحمى البلاد ويؤمنها، وبين بعض أذرعه التى أصبحت تؤدى أدوارا فى الساحة الداخلية. وإدانة هذه الأذرع ــ الشرطة العسكرية مثلا ــ لا ينبغى أن تحمل بحسبانها إدانة للجيش، لأن وضعها فى فترة الانتقال يكاد يتطابق مع الدور الذى تقوم به أجهزة وزارة الداخلية التى يشتبك معها المواطنون طول الوقت.

 

إننا نعلم أن «البلطجية» كانوا سلاح وزارة الداخلية فى مواجهة المتظاهرين ضد مبارك ونظامه، وتلك قرينة تدل على أن الكلام عن ارتباطهم بالسلطة ليس افتئاتا ولا افتراء. وحين تنشر الصحف كلاما على ألسنة المعتصمين يتحدثون فيه عن الأسلحة وقنابل الغاز التى يحملونها ووجبات الطعام التى ترسل إليهم من بعض دور الضيافة الرسمية، فإن شكوكنا تتزايد فى أن السلطة ليست بعيدة عن الموضوع.

 

إننا نريد أن نصدق أن المجلس العسكرى لا علاقة له بالمذبحة التى حدثت فى ميدان العباسية، ولكن تصريحات أعضاء المجلس لا تساعدنا على ذلك. وكلامهم يريد أن يقنعنا بأنهم متفرجون على البلد وليسوا مسئولين عن إدارته. وهى رسالة تلقيناها من تصريح أحدهم الذى قال فيه إن المعتصمين رفضوا عرض السلطة تأمينهم، وكأن حماية المواطنين ليست واجب الدولة، ولكنها خيار لها، الأمر الذى يعنى أن ثمة التباسا بين دور المسئول والمواطن العادى، أو بينه وبين السائح الأجنبى، الذى لا يستشعر أى تكليف عليه إزاء المجتمع الذى يزوره.

 

الخلاصة أن التصريحات سابقة الذكر لا تشجعنا على الاطمئنان إلى التحقيقات الجارية فى مذبحة العباسية، من ثم فليت مجلس الشعب يشكل لجنة من أعضائه لتقصى حقيقة «البلطجية» ولحساب من يعملون، كما فعل من قبل مع مذبحة مشجعى النادى الأهلى فى بورسعيد.

 

أما تعليقى الأخير على المؤتمر الصحفى الذى تحدث فيه ممثلو المجلس العسكرى، فهو أنه كان دفاعا عن الذات ومحاولة لنفى «البطحة» أو استبعادها، ثم أنهم كانوا معنيين بتحذيرنا وتخويفنا بأكثر من عنايتهم بطمأنتنا وتفهيمنا أو حتى مواساتنا فيما أصابنا فى العباسية.

 

ولأننا ودعنا زمن الخوف، فأزعم أنهم بما قالوه لم يفهمونا، وأن ما صدر عنهم كان نموذجا للكلام غير المناسب فى الوقت غير المناسب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved