نسائم ربيع أوروبى

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 5 يونيو 2014 - 8:05 ص بتوقيت القاهرة

أطلقوا عليه الزلزال الذى هز أسس الوحدة الأوروبية وقضى على آمال الوحدويين الأوروبيين. آخرون راحوا بعيدا جدا فاستعاروا من جنوب المتوسط ما يعرف بثورة الربيع ليصفوا به هذا التطور المذهل، بينما اعتبرت الصحف الرأسمالية الكبرى فى أمريكا وانجلترا ما حدث جانبا، لا أكثر ولا أقل، من جوانب الحملة الناشبة على النظام الرأسمالى. هذه الحملة التى تسعى، حسب رأى هذه الصحف، للتدليل على أن تجربة الليبرالية الجديدة تسببت فى فجوة لا مساواة شاسعة، وأن هذه الفجوة تقف الآن وراء كل مصيبة أو كارثة تحدث فى العالم الرأسمالى. هناك أيضا بين قوى اليسار المعتدل فى أوروبا من يلقى بالمسئولية على الأزمة الاقتصادية التى نشبت فى عام 2008 ولاتزال مستمرة. فقد دفعت الأزمة حكومات أوروبا إلى انتهاج سياسات تقشف وركود اقتصادى، دفعت بدورها إلى بطالة أشد فتوتر اجتماعى امتد ليشمل معظم أنحاء أوروبا الغربية. كانت أحد مظاهر هذا التوتر الزيادة الملموسة فى المشاعر العنصرية ضد المهاجرين المسلمين والأفارقة والأوروبيين الشرقيين.

•••

أما التطور الذى استدعى هذا الفيض المتدفق من التعليقات والمواقف السياسية، فهو الزيادة المفاجئة فى نصيب الأحزاب والتيارات المناهضة للوحدة النقدية الأوروبية فى الانتخابات التى جرت لشغل مقاعد البرلمان الأوروبى. كان وقع الزيادة مفاجئا إلى حد جعل كثيرا من ردود الفعل تلجأ إلى المبالغة فى تصوير أبعادها وتقدير نتائجها. فقد ربط أحد ردود الأفعال مثلا بين هذه الزيادة فى أصوات اليمين وأحداث أوكرانيا، وبالتحديد سياسات الرئيس بوتين وبخاصة توجهاته القومية المتشددة ودعوته الشعب الروسى إلى العودة للاعتزاز بوطنه وسيادته. ظهر فى التعليقات وردود الفعل وكأن أوروبا مقبلة على نازية جديدة تزحف من جميع الأنحاء فى اتجاه جميع الأنحاء، وظهر فلاديمير بوتين، أو نظام حكمه، وكأنه جوهر هذه النازية الجديدة.

زاد من المبالغات وتهويل الموقف أن اجتماعا طارئا لوزراء الاتحاد الأوروبى تقرر عقده على الفور، باعتبار أن ما حدث يقع تحت عنوان الأزمة. اعتبروا أيضا أن الحاجة ماسة لاختيار أسماء جديدة بمواصفات مختلفة لقيادة الاتحاد الأوروبى خلال سنوات عصيبة قادمة.

•••

من بعيد، أى من هنا فى القاهرة مثلا، كان فى الإمكان التأمل فيما حدث بهدوء. بدا واضحا بالنسبة لى على الأقل أن تصعيد الحدث وتضخيمه تقف وراءهما قوى إعلامية ضخمة هالها الأمر أو لعلها توجست شرا من ترابط حدثين: الأول هو الاهتمام الهائل بالكتاب ذائع الصيت الذى يحمل عنوان «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين»، باعتباره الكيان الذى قام بتشريح المرحلة الرأسمالية الراهنة بشكل لم يسبقه إليه مفكر آخر ماركسى أو غير ماركسى.. أما الثانى فهو هذا الصعود المفاجئ للقوى السياسية الأوروبية المناهضة لكثير من ممارسات الاندماج الأوروبى. لم يكن مفاجئا لنا أن نرى الصحف اليمينية الأمريكية الأشهر مثل الوول ستريت جورنال وجرائد بريطانية متميزة مثل الفاينانشال تايمز تقود صيغ المبالغة فى تصوير التطور الانتخابى الأوروبى وأبعاده. لا يخفى بطبيعة الحال أن بعض هذه الصحف يقرأها قبل غيرها، وربما لا يقرأ غيرها، أفراد النخبة الاقتصادية -السياسية الأوروبية، خاصة أن «أوروبا الموحدة» لم تفرز بعد شبكة اتصال وإعلام أوروبية، كالشبكة الإعلامية الأنجلوسكسونية.

بعد يومين من التأمل والدراسة ونشر بيانات جديدة اتضح أن الصعود المفاجئ فى أصوات الناخبين المؤيدين للأحزاب المناهضة لليورو وهيمنة الاتحاد الأوروبى، لم يقتصر على الناخبين ذوى التوجه اليمينى. بمعنى آخر لم يكن ما حدث دليلا ناصعا كما ادعت الصحف الأنجلوسكسونية، على أن النازية تبعث من جديد أو تنتعش فى أوروبا الغربية، أو أن أوروبا بأسرها تتجه نحو اليمين. صحيح أن حزب السيدة لوبان فى فرنسا تخطى بالأصوات التى حصل عليها أصوات حزبى المحافظين والاشتراكيين اللذين احتكرا السلطة منذ عقود، وصحيح أن حزب الاستقلال البريطانى ذى النزعة اليمينية المتطرفة تقدم فى هذه الانتخابات على حزبى العمال والمحافظين، إلا أنه صحيح أيضا أن حزب سيريزا اليسارى اليونانى فاز فوزا ساحقا طارحا برنامجا مناهضا لأوروبا الموحدة وكذلك تقدم الحزب الإيطالى الذى يقوده السنيور بيبى جريللو، ويعتبر من الأحزاب اليسارية المعتدلة، وحزب بوديموس «نستطيع» فى إسبانيا.

•••

أحزاب اليمين ظهرت قوية فى هذه الانتخابات «الأوروبية المستوى والمسرح» وربما أقوى من حقيقتها على المسرح المحلى. مثلا الحزب من أجل الحرية الهولندى، وحزب الرابطة الشمالية فى إيطاليا وحزب الحرية النمساوى وحزب فلامس بيلانج البلجيكى والجبهة الوطنية فى فرنسا، وحزب الفجر الذهبى النازى التوجه فى اليونان، وثلة من أحزاب ثانوية فى دول أخرى. هذه الأحزاب ظهرت أقوى من حقيقتها، ولعلها الآن تعتبر هذه القوة حافزا لتحصل على نسبة مماثلة فى أول انتخابات قومية قادمة.

من ناحية أخرى، ليست كل هذه الأحزاب اليمينية متفقة تماما على الهدف وعلى البرنامج. كان مثيرا موقف رئيس حزب الاستقلال البريطانى الذى فاز بنسبة 27٪ بينما لم يحصل حزب العمال إلا على 25٪ وحزب المحافظين الحاكم على 24٪، حين قال زعيمه إنه لن يشارك فى أى جبهة فى البرلمان الأوروبى مع حزب لوبان الفرنسى بسبب ميوله المعادية للسامية. وفى ألمانيا مثلا يتخذ حزب «البديل لألمانيا» موقفا ضد اليورو ولكن يؤيد أوروبا الموحدة. وعلى كل حال لا يجوز أن نغفل حقيقة هامة وهى أن مشاركة الأحزاب اليمينية فى الانتخابات الأوروبية دليل فى حد ذاته على أنها تؤمن بالفكرة الأوروبية.

من ناحية ثالثة، رغم هذا الفوز الكبير لأحزاب تنتقد الاتحاد الأوروبى، مازالت الأحزاب التقليدية المؤيدة للاتحاد ولعمل المفوضية الأوروبية تحتفظ بأغلبية الأصوات فى البرلمان الأوروبى. فمن بين 751 مقعدا فى البرلمان الأوروبى يحتل المعارضون الجدد ما لا يزيد على 229.

هناك بلا شك ميل أوروبى نحو اليمين، ولعله يوجد فى أقاليم أخرى بدليل الاتجاه المتزايد لتقليص الاهتمام بالديمقراطية، واتجاه متزايد آخر لدعم قوة الدولة فى مواجهة تيارات الإصلاح والمشاركة والعدالة الاجتماعية. أستطيع القول بثقة أن هذه الزيادة فى أصوات الناخبين الأوروبيين لصالح تيارات يمينية ويسارية لم تأت من فراغ، إنما جاءت نتيجة منطقية لاستمرار تداعيات أزمة 2008 الاقتصادية والركود الاقتصادى المتواصل، جاءت متوافقة مع مزاج رافض للنخب السياسية الحاكمة ولاختياراتها، رأينا هذا المزاج بوضوح على المسرح السياسى الإيطالى، ونراه فى فرنسا وإسبانيا واليونان، ونراه فى صورته الكاشفة فى دول الربيع العربى.

كان لابد أن تنعكس هذه الأحوال على السلوك الانتخابى للمواطنين فى معظم أنحاء أوروبا. كان متوقعا مثلا بين أكثرية المتابعين للتطور الاجتماعى وتداعيات الأزمة الاقتصادية فى أوروبا أن تتصاعد مشاعر الكراهية وممارسات الرفض للمهاجرين، وهى الكراهية التى يبدو أنها وصلت إلى أوجها فى فرنسا واليونان وبريطانيا. انعكست أيضا على أمن أوروبا واستقرارها، فالحادث فى أوكرانيا ليس بعيدا تماما عن هذه الأحوال فى غرب القارة. الأمر الذى يبدو مؤكدا هو أنها صبت فى صالح بوتين الذى استفاد من أزمات أوروبا الغربية ليركز جهوده على مقاومة توسيع الاتحاد الأوروبى، واثقا من أنه فى هذه القضية بالذات تتوافق سياسته مع رغبات الناخبين فى غرب أوروبا.

•••

رغم التهويل والتضخيم فى تصوير نتائج الانتخابات الأوروبية وأبعادها المحتملة ما زلت أعتقد أن انزعاج قادة أوروبا حقيقى. فالنتائج وإن كانت لا تعبر تماما عن اهتمامات عاجلة وحيوية للشعوب، باعتبار أنها تتعلق بانتخابات لبرلمان أوروبى لا يقرر مباشرة فى شئون داخلية للدول الأعضاء، إلا أنها، أى النتائج، تمثل إنذارا من الناخبين للمسئولين الأوروبيين للتوقف عن تسهيل الهجرة بين دول الاتحاد ومن خارجه، وتعلن مرة أخرى، وهو الأهم، أن الشعوب ليست مستعدة بعد للتنازل عن سيادتها لكيان إقليمى يدار بأشخاص من جنسيات أخرى يتدخلون فى شئون مواطن عادى لا يعرفهم ولا يستطيع محاسبتهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved