حياة بدون خوف أو ندم

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 5 سبتمبر 2017 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

بدا لنا وكأنه يتهرب من لقاءاتنا. تعودنا فى مجموعتنا الصغيرة على ألا نتدخل كجماعة فى خصوصيات واحد أو واحدة منا إلا إذا طلب أو طلبت منا التدخل. لاحظنا ــ كلٌّ فى البداية على حدة ــ أن تعليقاته، وكانت دائما حادة، صارت أشد حدة. أحيانا وفى نهاية السهرة يقترب منى وهو يودعنى ويعتذر هامسا. أفهم وأنقل اعتذاره. مع الوقت بدأنا ننزعج. لم يعد الشخص الذى يحلل بموضوعية، تغيرت ملامح وجهه. اختفت ابتسامته التى كانت تملأ هذا الوجه ليحل محلها عبوس. نراه بهذا العبوس فنظنه مريضا. نسمعه يناقشنا فنظنه كارها لنا. لم نعرف عنه تشددا فى المواقف إلا أخيرا منذ أن وجدناه وقد صار لعدة شهور معارضا عنيفا لسياسات حكومة قائمة ولشهور أخرى مؤيدا عنيفا لها وفى الحالتين عابسا وثقيلا على غير عادته. 
***
أطلقوا عليها الوردة المفتحة. أظن أننى كنت الشخص الذى اتهمها بأنها بِطَلّتها الحلوة علينا فى صالون الحوار تكون قد كسبت نقطة علينا فى حوار لم يبدأ. وللحق أقول إنها فى جلساتنا لم تستخدم يوما جمالها وخفة روحها ودعاباتها لتكسب دعما لمواقفها وآرائها. ارتحنا لوجودها وارتاحت إلينا. كثيرا ما لجأنا إليها لنحل معضلة حياتية تزعجنا ولنستفيد من حكمتها النسوية. كنت الأدرى بظروفها وبمراحل نموها إلا مرحلة. منعنى عجز فضولى من أن أرتكب خطأ الاقتراب من المحظور. هناك محظورات فى العلاقات مهما توطدت واندمجت وتداخلت. أغلبنا يخفى معالم مرحلة أو أخرى عندما تدفعه الظروف ليكتب أو يروى سرديته. عرفت أنها لاحظت ما لاحظناه على سلوك صديقنا وعضو مجموعتنا، واحترمت كما احترمنا قاعدة عدم التدخل فى خصوصياتنا إلا بإذن واضح وصريح. قالت لنا ــ بعد أن تكرر غيابه وتصاعدت حدة مواقفه وازدادت عصابيته ــ: «أظن أننى أفهمه وقد نجد حلا يساعدنا».
***
لم تنتظر الترخيص لها بالاستطراد فاستطردت. أنا أفهمه لأننى أظن أنه يمر بما مررت به قبل سنوات. كانوا يقولون، وما زال الكثيرون يرددون، إن الانسان يولد متشائما أو يولد متفائلا. ما زلنا نقول إن فلانا ولد محظوظا، أو ابن حظ، وفلانا ولد تعيسا وطاردا للحظ. أثق بقوة فى أن التشاؤم يصيب إنسانا مرت به أزمة حادة أو كارثة أثرت أقوى تأثير فى نظرته للناس وربما للحياة. يصيب أيضا بشرا خضعوا لأساليب تربية خاطئة زينت لهم أيامهم القادمة بزخارف وهمية أو حقيقية وعندما وصلوا إليها وجدوها سرابا، حتى الزخارف لم تظهر. هؤلاء كبروا ولم ينضجوا. قال لهم أهلهم ومعلموهم: اخرجوا إلى الحياة.. هناك تنتظركم أحلامكم وسترون أنها تحققت. قالوا لجدى وهو شاب يافع: اذهب إلى الرخاء، إلى حيث الحياة الرغدة، اذهب إلى أمريكا اللاتينية. هناك يجمعون الذهب من على أرصفة حارات المدينة وأزقتها فى ذهابهم كل صباح وإيابهم عند المساء. الذهب ملقى سبائك وعملات والناس يمشون حاملين زكائب. استطردت مضيفة، قالوا لخالى وما زال طفلا محاطا بمربيات يركضن خلفه خشية أن يقع فتلامس يداه الأرض، لا حاجة بنا إلى مدرسة ثم جامعة، فالعلم سيأتى إليك هنا. الوظائف لا تهمنا ولن نسعى إليها فنحن نوظف الناس ولا نستوظف. 
***
الحلم انتهى سرابا. خيم على العائلة التشاؤم. لا ذهب ولا الجنة الموعودة. عشر سنوات من البطالة والمهانة والقلق على المصير أعقبها عشر أخرى اكتشفت العائلة خلالها أن الذهب موجود ولكن فى نفس كل منهم. عمل الجد السنوات العشر. أقام مصانع تنتج سلعة كانت فى زمنها الأحدث والأسرع فى الانتشار. أنتجت المصانع جوارب من «النايلون» للنساء جلبت ذهبا وفيرا عادت به العائلة إلى الوطن. أما الخال فلم يتحمل الفشل وخيبة الأمل وسقوط الحلم. غرق فى تشاؤم طويل دام عشرين عاما أو ما يزيد. تزاحمت على جسده الضعيف الأمراض وتخلى عنه أصدقاء وأقرباء فتحققت النبوءة متجسدة فى شخص مكتمل الفشل. عجز عن مناهضة الشعور بالفشل بل لعله لم يحاول. لم نَرَه يوما يقاوم ولو بابتسامة أو بربتة على كتف طفل أو بمداعبة امرأة أو بتذوق طعم طعام لذيذ وروعة منظر طبيعى خلاب. أنقذته من حال اليأس سائحة أخذته إلى بلادها. ساعدته فى تمرده على التشاؤم. ردت إليه روحه وعاش متفائلا حتى تجاوزالتسعين. 
***
الفرق بين الجد والخال، الخال أراد أن «يحصل على كل شىء ولا أقل من كل شىء فإن تعذر فلا شىء». هذا هو بالضبط تعريف جاكومو ليوباردى، أشهر من أنجبت إيطاليا من شعراء اليأس، للسبب وراء ظاهرة التشاؤم. فإن تحققت الظاهرة وأمسك التشاؤم بتلابيب الإنسان يصير صعبا حماية الفرح من المأساة والبهجة من الحزن والانتصار من الهزيمة والسعادة من التعاسة والحب من الكره. الجد أصابه هو الآخر كرب عظيم عاش معه سنوات قبل أن يتمرد عليه. تصرف بعقل الطفل الذى يريد الكل، ولكن إن صادف معارضة قوية رضى بالجزء إلى حين. الطفل يدرب نفسه على أن يأخذ ثم يطالب ويرضى حتى تحين الفرصة ليطالب من جديد. الجد بدأ تمرده بشراء الملابس القديمة وبيعها وادخار معظم الدخل ليشترى أول مصنع، ثم آخر حتى صارت له مصانع عديدة، وظل يحتفظ فى بيته ولأولاده إلى أن مات بزكائب بها عملات وسبائك ذهب. 
***
ما أكثر القصص عن نساء تعلقن طويلا بحلم الالتقاء برجل بمواصفات وقدرات عاطفية معينة. رجل كريم فى حبه، طاهر فى خصاله، صادق فى مشاعره ومعطاء، لا يقتطع منها ومن عواطفه ليعطى غيرها، وإن فاضت حتى تدفقت فكلها لها. رأيت إحداهن وقد عجزت عن التمرد على ما أصابها من تشاؤم نتيجة اكتشافها أن الحلم كان سرابا، أو تحقق أقله وخاب أكثره. رأيتها فاقدة الأمل فى تحقيق أى إنجاز. امرأة فشلت، فالحياة بالنسبة لها انتهت. سمعتها تقول: العيب فينا نحن بنى البشر. الإنسان عدو السعادة. يحطمها كلما اقتربت منه. انظر إليه وهو يقتلع الأشجار وأحيانا يذبحها ليقيم بيوتا يخفى بها الطبيعة التى كانت بالتأكيد خلابة قبل أن يخلق ليسكن هذه الأرض. صحيح ما سمعته عن الإنسان. الإنسان سرطان الأرض، يسرق جمالها قبل أن يقتلها. 
هذا هو ما يفعله المتشائم بنفسه وبالناس وبالحياة. عالم المتشائم ممتلئ بالبؤس والألم، يهرب الإنسان منه ليجده عند كل ركن وفى كل خطوة. القدر بالنسبة له وحش مفترس أو سلسلة من مآسٍ لا تنفرط إلا قليلا لتعود وتترابط. علاقة البشرية بالقدر غريبة إن لم تكن شاذة. الأشياء تحدث لأنها يجب أن تحدث، وهذا غير صحيح بالضرورة. هناك فى كل مكان بشر ينتظرون وقوع الكارثة. لا تكن واحدا منهم.
****
عش متفائلا، قالتها بلهجة المتمرد المنتصر. دع أبناء وبنات الجيل الصاعد يلتزمون القاعدة التالية: «لا خوف قبل منتصف العمر ولا ندم بعد منتصف العمر». كلاهما، هذا الخوف وذاك الندم، يتحملان وحدهما مسئولية كبيرة فى الإصابة بالتشاؤم. عش سعيدا، لا تفوت لحظة سعادة. استمتاعك بلحظات السعادة وتفاؤلك الدائم اعتراف منك للحياة بجميلها عليك.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved