مواجهة الحقارة بالذل المهين

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 5 سبتمبر 2018 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

مهما حاول الإنسان تفهّم جوانب تعقيدات مشهد العلاقة العربية ــ الأمريكية المرضية الغامضة، فإنه لا يستطيع تجنيب نفسه مشاعر المرارة والغضب.
ها نحن أمام مشهدين محيرين متناقضين يعيشان فى عالمين نفسيين متباعدين، لكنهما متعايشان بقبول ورضى، وعند البعض بحميمية العاشقين.
المشهد الأول الأمريكى يتمثل فى أنظمة حكم لدولة عميقة، تقوم على علاقات انتهازية متبادلة بين المؤسسات العسكرية والمالية والصناعية والإعلامية، تآمرت، بتنسيق مع بعض الأنظمة الرجعية الزبونية العربية، على المشروع العروبى القومى الوحدوى وأجهضته، ثم دعمت، بالمال والسلاح والمواقف السياسية الدولية المساندة، المشروع الصهيونى الاستيطانى فى فلسطين المحتلة، ثم قادت حروب ومؤامرات لتدمير وتجزأة أقطار عربية من مثل العراق وسورية وليبيا واليمن كمقدمة لتجزأة وتدمير أقطار أخرى فى المستقبل المنظور، ثم ساهمت بحقارة متناهية فى تجنيد وتدريب وتسليح وقيادة ودعم أشكال من المليشيات الهمجية الإرهابية الرافعة زورا وبهتانا لشعارات إسلامية كاذبة، مطبوخة فى مطابخ استخباراتية متآمرة، ونجحت فى زرعهم عبر طول وعرض بلاد العرب وعالم المسلمين. وها هى الآن تتوج كل ذلك بتخليها عن أبسط المشاعر الإنسانية التضامينة تجاه فقراء اللاجئين الفلسطينيين المطرودين من أرضهم وتجاه تعليم أطفالهم بواسطة مؤسسة الأونروا.
إنها هنا تمارس، دون حياء، دور الشيطان الذى ساند المجرم الصهيونى فى تنفيذ جرائمه طيلة سبعين سنة، ليشارك اليوم المجرم بكل لؤم فى لوم واحتقار والتخلى عن الضحية الفلسطينية.
***
فى مقابل ذلك المشهد الأمريكى العدوانى الإمبريالى مشهد عربى لا يمكن إلا أن يوصف بأنه مشهد نفسى سادى، لكأن العرب يسعدون بالأذى والألم والتحقير الذى تمارسه أمريكا، المرة تلو المرة، بحق حقوقهم وكرامتهم ومصالحهم. وإلا فهل يعقل أن تمارس الحكومات الأمريكية المتعاقبة كل ما ذكرنا دون أن ترى ردا عربيا، سواء على المستوى الوطنى أو على المستوى القومى الجماعى، يشعرها بأنها تلعب بالنار وبأنها ستدفع ثمنا غاليا لكل ما تقوم به من تلك الموبقات؟
هل يعقل أن يكون ذاك الشلل لا يقتصر على الغالبية الساحقة من الحكومات العربية، وإنما يشمل ــ وا حسرتاه ــ الغالبية الساحقة من الشعوب والمجتمعات المدنية العربية أيضا؟
لا نطالب بالدخول فى حروب عسكرية مع أمريكا، فهذا انتحار. ولكن هل يعقل ألا نرى سفيرا عربيا واحدا يستدعى من مقره فى واشنطن، ولا نرى سفيرا أمريكيا واحدا يطلب منه المغادرة؟ هل يعقل ألا نسمع باجتماع واحد لوزراء الخارجية العرب أو لرؤساء الدول العربية لاتخاذ موقف سياسى أو اقتصادى واحد، عدا اجتماعات الشجب الباهت الذليل أو التعبير المضحك عن القلق والأمل فى إعادة النظر؟
ولم تكن مواقف الشعوب ولا المجتمعات المدنية بأفضل من ذلك. هنا بيان متواضع من حزب وهناك مناقشة تحليلية نظرية على هذه المحطة التلفزيونية أو تلك. تغيب بصورة مفجعة المظاهرات الاحتجاجية المطالبة بقطع العلاقات مع أمريكا، ويغيب شعار المقاطعة للبضائع والخدمات الأمريكية حتى فى أبسط صورها. لكأن الشعوب العربية قد قررت التخلى عن ممارسة السياسة حتى فى أبسط أشكالها.
هنا لا نملك إلا أن نسترجع قولا كوميديا ساخرا نشرته جريدة الجارديان البريطانية للمخرج الأمريكى ستانلى كوبرك: «تتصرف الدول الكبيرة كما يتصرف أفراد العصابات الإجرامية، أما الدول الصغيرة فتتصرف كالبغايا». إنه تقابل الحقارة المجرمة بالابتذال المذل الرخيص فى مشهد جنائزى لموت فضيلة احترام الذات والكرامة الإنسانية.
***
دعنا من الرد العربى الرسمى المشترك، فالخلافات بين الحكومات العربية حول تلك الأدوار الأمريكية فى طول وعرض الوطن العربى أصبحت فضيحة من فضائح النظام الإقليمى العربى الحالى. لكن ألا تستطيع مجموعة مدنية شعبية عربية، وبالذات شبابية، أن تدشن «هاشتاج» على شبكات التواصل الاجتماعية العربية ليوقعه الملايين من العرب والمسلمين فى كل أنحاء الدنيا، يتعهدون بموجبه أن يقاطعوا كل منتج أمريكى، لباسا وطعاما وسيارات وأدوات إلكترونية وبنوكا وخدمات سياحية على سبيل المثال لا الحصر، وذلك كرد فعل رمزى يشعر الإدارة الأمريكية المجنونة الحالية بأن هناك خطوطا سياسية قومية حمراء فى حياة الإنسان العربى؟
ألن تدفع تلك الخطوة المتواضعة المؤسسات والشركات الأمريكية المتضررة لتضع ضغوطا على الإدارة الأمريكية لمراجعة سياساتها وممارساتها القمعية والابتزازية تجاه كل قضايا العرب، بل وبالذات مراجعة هذا الاندماج الكامل العضوى فى المشروع الصهيونى الإمبريالى المتعاظم؟
لقد مرت على أمة العرب حقب استعمارية متعددة، لكنها كانت دوما تواجه بشتى أنواع المقاومة والمقاطعة الممتدة من الخطوات الرمزية إلى الحروب التحريرية بتضحياتها الهائلة.
فما الذى أوصل هذه الأمة إلى أن تقبل نخبها السياسية وملايين شعوبها وكل مؤسسات مجتمعاتها هذا الوضع الوجودى الذليل المشلول الذى نراه من أمامنا؟
الإجابة التشخيصية معروفة، بل وتعبنا من معرفتها وتكرارها. لكن السؤال الحقيقى هو «أين الفعل؟».
على شباب العرب أن يرددوا ويعوا قولا معبرا للعالم الرياضى البولندى جاكوب برونوسكى: «العالم لا يمكن فهمه وقيادته إلا بالفعل.. وذلك أن الحد القاطع من العقل هو الفعل».
مفكر عربى من البحرين

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved