المطار محطة القلوب

تمارا الرفاعي
تمارا الرفاعي

آخر تحديث: الأربعاء 5 أكتوبر 2016 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

يكتظ المطار بأشخاص يسرعون جارين حقائبهم وراءهم، على وجوههم دائما سؤال، وكأنهم دوما متأخرون عن موعد الطائرة التى يريدون اللحاق بها. قلة هم من يمشون فى المطار بتؤدة وكأن الوقت لصالحهم. المطارات أماكن توحى دائما بالزحمة، حتى أننا نستغرب حين نصل إلى مطار إن وجدناه هادئا بعض الشىء.

لكن أكثر ما يساهم بازدحام المطار هو الوجوه المشحونة بالعواطف، ننظر حولنا فلا نرى وجها حياديا. فى المطار تتطاير العواطف، فننحنى حتى نتجنب صرخة أم تودع ابنها قد تقع على آذاننا كالصفعة، وقد تربت علينا قبلة والد على رأس ابنته العروس وهو يودعها مع زوجها، فى المطار نسمع زوجين يتشاجران بعد أن قال لهما الموظف أن عدد حقائبها قد تجاوز ما هو مسموح به، كما تصلنا كلمات الشابة التى يبدو عليها أنها طالبة تسافر للدراسة، وهى تودع أصدقاءها قبل أن تتوجه نحو منضدة بيع التذاكر.

***
فى المطار حركة لا تنتهى وقصص مكبوتة تنفجر عند بوابة المغادرة. فمن ترك بيته إثر شجار لم يكن مخططا له مع شريكه يشعر فجأة بالذنب عند آخر موظف يطلب أن يرى بطاقته، ومن قرر السفر بحثا عن فرصة لحياة أفضل بنظره يشعر عند آخر بوابة أن ثمة يد تشده للوراء حتى لا يذهب. هل فعلا استنفد كل الإمكانات فى بلده قرب أهله؟ ربما يحالفه الحظ سريعا عند وصوله فلا يضطر للبقاء طويلا فى الغربة. أما من كان فى زيارة فقط وها هو يعود إلى مكان إقامته، فغالبا ما قد يسأل نفسه عند تلك النقطة «ماذا لو كنت أعيش هنا بدل هناك؟».

فى المطارات تكثر العواطف حتى وإن لم تكن عند المسافر أية رغبة فى البقاء، حتى لو كان لم يعد يطيق صبرا على الرحيل. فى المطار تسقط الأقنعة، ونظهر حزننا على ذهاب من نحب أو فرحنا بمقابلتهم. نتنفس الصعداء حين يختم الموظف جواز السفر ونمشى فنفهم معنى «حرية الحركة». فى المطارات تنتابنا فجأة أحاسيس تقفز من مكان بعيد داخلنا إلى حنجرتنا، فنبكى أو نضحك أو نلعن من كان السبب فى رحلينا.
***
هناك شىء شديد الإثارة فى الساعات التى نمضيها فى المطار، رغم تذمر بعضنا من ساعات الانتظار ومن زحمة المسافرين أمام شباك الجوازات ومن تعب الرحلة. الانتظار فى المطار كأنه وقت جمد بين قوسين، معلق بين حياتين، بين بلدين، بين حالتين، بغض النظر عن قصر الرحلة ومدة الغياب. كانت أمى تردد «السفرة الطويلة متل القصيرة بدها تحضير وبدها مطارات وبدها روحة ورجعة». أذكر أنه فى زمن غير بعيد، لكن قبل أن يصبح العالم أكثر اتصالا والسفر أقل تعقيدا لمن يستطيع، كنت أتعجب حين أرى أن جيل جدتى لم يكن يسافر لمدد قصيرة، فمن كان يزور أولاده فى المهجر غالبا ما كان يخطط لمدة لا تقل عن عدة أسابيع، ويحضر للرحلة وكأنه ذاهب إلى هناك كى يستقر مع العائلة، فمن مواد المطبخ التى يهيؤ له أن أولاده محرومون منها، إلى قماش لخياطة ستائر جديدة لمنزل ابنتهم، إلى كمية كبيرة من الأدوية التى يستخدمونها عند المرض (وكأن البلد الذاهب إليه لا دواء فيه)، إلى أكياس من الكبة والفطائر الجاهزة للقلى (فى حالة الأمهات السوريات تحديدا)، أو ورق العنب الملفوف والجاهز للطبخ، تسافر الجدة وكأنها لن تعود.

عند الوصول إلى البلد المضيف وبعد التململ من طابور ختم الجوازات، نخرج من البوابة فننظر فى وجوه المستقبلين: عائلات بأكملها تنتظر ربما الجدة، أطفال لبسوا الزى الرسمى ومشط أهلهم شعرهم، ليستقبلوا تلك القريبة التى اختارت أن تعيش بعيدا منذ زمن طويل، وتزور البلد مرة كل عام، موظف شركة الاستقبال يحمل لافتة عليها اسم الخبير الأجنبى الذى ينتظره ليقله إلى الفندق. يلبس جميع موظفى شركات الاستقبال نفس التعبير على وجوههم، خليط بين التركيز فى وجوه القادمين وبعض الملل من الانتظار عدة مرات فى اليوم ذاته مع ورقة كتب عليها اسم مستر جون أو دكتور فرانسوا.
***
مع قصص الهروب واللجوء والهجرة والغرق اليوم، يأخذ السفر بعدا آخر. أقف فى المطار وأتخيل معنى أن أكون ذاهبة نحو المجهول. أنظر خلفى فأرى زوجى يودعنى، وأتأمل فكرة أن يودع أحدهم من يحب دون أن يعرف ما الذى ينتظره وإن كانوا سيلتقون من جديد أصلا. أرى صور الشباب يقطعون الحدود على أرجلهم، وأرى فى وجوههم الإصرار على بناء حياة جديدة لهم ولذويهم. يصلون إلى بلاد لا يتحدثون لغتها وهى أبعد ما تكون عن واقعهم، لا أحد فى استقبالهم، ولا موظف يحمل لافتة عليها اسمهم. لم يلبس أطفال العائلة ثياب العيد احتفالا بقدومهم. وحدهم هم فى محطة القطار، ينظرون حولهم محاولين أن يندمجوا مع المكان فلا يلفتون الانتباه، نظراتهم سريعة تتنقل بين الوجوه بحثا عن المألوف، بحثا عن شىء من الحنية يشجعهم على السؤال.

وبينما يتعامل العالم مع موضوع «الهجرة» على أنها ملف للنقاش من الناحية السياسية والقانونية، فى عصر أصبح السفر فيه أكثر سهولة من ناحية لوجستية وعملية، وأكثر تعقيدا من ناحية قانونية، أقف فى المطار وفى قلبى سلام لمن يرى فى الأفق إمكانية أن يحقق ما لم يحصل عليه فى بلده، سلام لمن يريد الأفضل فيتحدى البحار والجبال. فى المطار تجتاحنى أحاسيس متداخلة، لا يربطها سوى فكرة التنقل والحركة والشوق والرغبة فى أن أعيش مع من أحب دون مسافات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved