أى أمل يرجى فى غرب ينحدر

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 5 أكتوبر 2016 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

قيل الكثير تشخيصا ورأيا فى الحملة الجارية حاليا لانتخاب رئيس للولايات المتحدة الأمريكية. بعض ما قيل صدر متأثرا بحماسة أجهزة الإعلام التى وجدت فى أحد المرشحين فرصة لا يصح تفويتها إذا حسن استخدامها لصنع معركة انتخابية تدر دخلا وفيرا، بعض آخر مما قيل صدر متأثرا برغبة النخبة المهيمنة فى الحزبين تحريك الركود السياسى الذى أمسك بخناق واشنطن فى ظل حكم باراك أوباما، وكاد بالفعل يكتم أنفاسها. أكثر ما قيل ويقال يعود فى رأيى ورأى آخرين إلى تطورات وتوجهات سياسية أعمق وأخطر.

***
صديق أمريكى تخصص فى العلاقات عبر الأطلسى علَق على الحملة الانتخابية الأمريكية بقوله، هى الحملة الأشد قبحا فى تاريخ الانتخابات الأمريكية. أطلق الصديق تعليقه واستطرد قائلا ما معناه أن الخاسر الأكبر فى هذه الانتخابات لن يكون أحد المرشحين، إنما الغرب كجماعة بشرية تعتنق عددا من المبادئ الحقوقية والأخلاقية وتعتقد أنها حملت على أكتافها عقودا أو قرونا مسئولية التبشير برسالة. تصدرت الديمقراطية هذه الرسالة أسلوبا للحكم بنماذج متعددة تصلح للتطبيق فى كل الثقافات والعوالم. عاشت جماعة الغرب تفخر بأن رسالتها كانت وراء معظم الإنجازات العلمية والقفزات الواسعة التى حققتها البشرية عبر العصور الحديثة. كذلك آمنت، أو على الأقل كانت تؤمن حتى وقت قريب، أن لا عودة عن الديمقراطية لمن تبناها ومارسها، هى طريق فى اتجاه واحد، إذا سلكته الشعوب فلن تحيد عنه.

أما الشعب الذى لم تساعده الظروف، ليسلكه فسوف تظل أحلامه متعلقة به وبالنماذج المختلفة التى يقدمها والإنجازات الراقية التى يكشف عنها. كان الظن أن الشعوب لن تتوقف عن المطالبة بها وأن الحكام حتى المستبدون منهم، لن يتوقفوا عن تأكيد التعهد بتبنيها ذات يوم قريب أو بعيد. أصحاب هذا الظن كثيرا ما اطمأنوا إلى أن إقبال حكام عديدين على تشجيع صناعة الدساتير والتزامهم الاتفاقات الدولية يعنى ثقة خفية فى الديمقراطية. سقط الظن أو كاد، وشواهد سقوطه كثيرة، ليس أقلها شأنا عدد الدول التى انحرفت مساراتها فى السنوات الأخيرة عن مسيرة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. هذا على الأقل هو ما تشهد به آخر إحصاءات «فريدام هاوس»، المؤسسة الأمريكية المتخصصة فى قياس نمو أو تآكل الممارسة الديمقراطية. بل أن هناك من نقل عن رؤساء غربيين الاعتقاد أنه ربما كان الحكام العرب على حق حين حذروا من أن تطبيق الديمقراطية فى بلادهم فى الوقت الراهن لن يخدم هدف الاستقرار.

***
تأكدت الظاهرة، ظاهرة انحسار تيار الديمقراطية بمضمونها الغربى فى العالم بأسره. صحيح أن نخبا حاكمة سربت لأنظمتها «الديمقراطية» مضامين أخرى رافضة المضمون الغربى، إلا أنها لم تتجاسر وتعلن أن أساليبها فى الحكم المطلق صالحة للبقاء والاستمرار فى كل المجتمعات آجالا طويلة. زعمت وتزعم أن الديمقراطيات التى اختارتها بمضامين مختلفة عن مضمون الديمقراطية الغربية إنما هى تجارب مؤقتة أو محلية هدفها النهائى الوصول إلى الظروف التى تسمح بتبنى ديمقراطية الغرب. عشنا فى الشرق الأوسط سنوات فى ظل دساتير وقوانين حقوق لا تعمل ولكنها قائمة لزوم تبريد الشعور بالذنب تجاه الغرب ولتفادى عقوباته. عشنا، وبخاصة دبلوماسيتنا، نتفنن فى إقناع الغرب بأننا مجبرون على سلوك مسالك الاستبداد لتحقيق نمو أسرع أو استقرار أطول. أقمنا هياكل تشريعية على النمط الغربى لم تقنع أحدا، لا الغرب خدع ولا أطراف العلاقة المباشرين ناخبين كانوا أم منتخبين أخذوها مأخذ الجد. عشنا، نحن أعضاء النخب السياسية فى جميع أنحاء العالم النامى، نحرص على رضاء الغرب، نعيب عليه تجاوزاته الإمبريالية وازدواجية تعامله مع القيم الإنسانية والأخلاقية، ولكن فى النهاية عشنا ننتظر حكمه على أدائنا فى النمو وقدرتنا على حماية مصالحه. عشنا كل هذا وعاشته معنا شعوب كثيرة قبل أن نصل معه، نحن مع الغرب، إلى نقطة مفصلية فى تطور العلاقات بيننا، هى اللحظة التى نعيشها معا الآن.

***
لم نصل معا إلى هذه النقطة من فراغ. ما زالت فيتنام تتلوى بآلام خلفتها حربان فرضتهما فرنسا وأمريكا، الأولى كانت للرغبة فى البقاء هناك كقوة استعمار من النوع البغيض جدا، والثانية كانت للحاجة لفرض النموذج الأمريكى نظاما للحكم. كذلك الحال فى الشرق الأوسط الذى يعيش مخاضا أليما منذ تدخلت أمريكا فى العراق لإسقاط حكم رجل يعبد الحكم ويقدس نفسه ولتغيير أسس الاستبداد. تدخلت تحت ضغط وتخطيط وتنفيذ مجموعة من المخربين أساءوا استخدام شعارات الليبرالية والديمقراطية. جاءوا من خلفية استشراقية وعنصرية. دمروا وخربوا وفككوا هياكل اجتماعية وسياسية وحاكموا رئيس الدولة وأعدموه ورحلوا. سكت أهل الشرق الأوسط عن المطالبة بتحقيق دولى يكشف حقائق ويذيع وقائع عن واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، جريمة فكرتها أشبه ما تكون بفكرة القنابل العنقودية المحرم استخدامها، طويلة المفعول واسعة الانتشار شديدة الفتك.

***
تعرضنا مثل غيرنا من الشعوب لموجات عولمة، الواحدة فى ذيل الأخرى. فرحنا بها وطالت السكرة. فجأة ومع مطلع القرن أفقنا وأفاقت معنا كل الشعوب، لنكتشف أننا أصبحنا على هويات بترتيب وأولويات تختلف عن تلك التى كنا عليها، ولنكتشف أننا وجدنا أنفسنا أطرافا فى علاقات اجتماعية أكثرها غير سوى أو منطقى. كنا فى سابق الأيام نتوحد فى مواجهة الصدمة أو الاعتداء، فجأة صرنا ننفرط وأحيانا كثيرة نتقاتل فى مواجهة أدنى تهديد وأقل إساءة. فجأة أيضا حل الشرة والغش محل الاستحقاق والشرف. عرفنا فيما بعد أن العولمة مسئولة عن الهجمات المتوحشة التى شنتها قوى دينية متطرفة وعن الدعوات الانفصالية الصادرة عن عديد الجماعات العرقية وعن الزيادة فى وتيرة الاحتكاكات المذهبية والطائفية.

لم يكن غائبا عن الأذهان أن العولمة صناعة غربية وأنها أضرت بمجتمعات بأكثر مما نفعت، لم تنج من ضررها دول فى الغرب ومنها الولايات المتحدة. يزعم المرشح ترامب أن أمريكا ضحية من ضحايا العولمة، وأنها بانحدارها فى سلم الأمم تدفع ثمن انسياقها فى تيارات العولمة أو قيادتها لها. أتفق معه. فالحديث الدائر فى أمريكا عن ضرورات ومزايا بناء جدار على الحدود مع كندا وجدار على الحدود مع المكسيك دليل قوى على صدق مزاعم ترامب.

أتفق معه لأننا فى أقل من أربعين عاما استقبلت شعوبنا بالترحاب والتفاؤل موجات عولمة اكتسحت حدودا عديدة وأسقطت جدرا مشيدة. ثم استقبلت موجات عولمة أخرى أقامت حدودا، حيث لم توجد حدود وشيدت أسوارا حيث لم توجد أسوار. كرهت الشعوب العولمة وراحت تحمل الغرب صانعها مسئولية ما يجرى من انفراط وفوضى وظلم اجتماعى ومشاعر عنصرية.

***
لم يعد للغرب جيوسياسيا المركز الذى تمتع به على امتداد القرون الحديثة. إذ حدث خلال سنوات قليلة، سنوات سلام عالمى لم تشهد له مثيلا شعوب أوروبا وشرق آسيا، حدث أن تدهورت مكانة أوروبا والولايات المتحدة كقيادة للديمقراطية فى وقت احتاجت إليها ثورات الربيع وقوى الديمقراطية فى نفس الوقت الذى صعدت فيه القوى اليمينية المتطرفة فى مختلف أنحاء العالم. حدث أيضا أن تفاجأ العالم بظهور دونالد ترامب، النقيض المطلق للديمقراطية الليبرالية الغربية ورسالة الغرب الحضارية، ظهر مطالبا بعرش الديمقراطية. حدث كذلك أن الغرب بحلفه الأطلسى واتحاده الأوروبى فشل فى حماية أوكرانيا من خطط روسيا التوسعية. حدث أن كوريا الشمالية دشنت تجربة نووية جديدة فى تحدٍ صارخ لأمريكا والغرب واليابان. حدث أن اتسعت المساحات الخاضعة للإرهاب وامتدت أياديه تنشر الدمار فى أقاليم عديدة وعدد من عواصم الغرب، ولم يقع حتى لحظة كتابة هذه السطور ما يثبت أن الغرب قادر على تحقيق نصر عاجل ومناسب على قوى الإرهاب. حدث أن ألوفا، وربما ملايين من العرب والأفارقة والآسيويين، زحفوا حتى وصلوا إلى أقصى مشارف الغرب بدون إطلاق طلقة رصاص واحدة. بمعنى آخر ظهر الغرب أمام شعوب الشرق الأوسط وأفريقيا ووسط آسيا ضعيفا ومنفرطا ومفتقرا إلى قيادة قوية، تستطيع وقف زحف أهل الجنوب للعيش فى معاقل الشمال.

وبالنسبة لعرب عديدين فقد سقطت مكانة الغرب كقوة تحتل مركزا جيوسياسيا لم تسبقه إلى مثله قوة أخرى فى التاريخ المعاصر، سقطت عندما فشل فى استثمار موجات الربيع العربى لصالحه وصالح الديمقراطية ولفائدة السلام العالمى. خاب خيبة عظمى وسقط سقوطا مدويا فى نظر الجماهير فى مختلف المدن العربية الثائرة والمتأهبة للثورة على حد سواء. الغرب القائد للديمقراطية ورافع راياتها وحامل رسالتها لم يكن على مستوى لحظة تاريخية كان يمكن لو توفر له الفهم السليم والقيادة الحكيمة والهيمنة العادلة والذكية أن يحقق من خلالها تحرير شعوب طال قهرها والانتقال معها إلى عصر جديد من الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. من وجهة نظرنا كانت ثورات الربيع العربى، محكا لاختبار صلابة الغرب فى الدفاع عن الديمقراطية وسقط فى الاختبار. سقط الغرب ضحية ثورات الربيع العربى ولم ينهض بعد.

***
أى أمل يرجى فى غرب ينحدر باضطراد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved