لماذا كــان الاهتزاز؟

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 5 نوفمبر 2014 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

فى إدارة الحرب على الإرهاب هناك فارق جوهرى بين العملين العسكرى والسياسى.

قوة الأول لا تغنى عن الثانى.

حيث يحضر السلاح على مسارح العمليات فهذه قضية أمن قومى وأن تغيب السياسة فهذا انكشاف مؤكد.

السلاح يتعقب ويضرب لكنه لا يحسم الحرب وحده.

هذه الحروب تستدعى بطبيعتها استنفار كامل قدرات الدولة، وهذه مسألة سياسية تغيب بفداحة.

فى الفراغ السياسى الثغرات تتسع بلا مبرر والأخطاء تتمادى بلا حد.

عندما يقول الرئيس إن حادث «كرم القواديس» استهدف هز ثقة الشعب والجيش، وأنه «هز الجميع» فلابد أن نسأل أنفسنا: لماذا كان ممكنا لعملية إرهابية أيا كان حجمها أن تصيب دولة كبيرة مثل مصر بحالة اهتزاز فى الروح العامة؟

من يتحمل مسئولية هذا الاهتزاز الخطير فى حرب قد تطول لشهور وسنوات مقبلة؟

هذا سؤال جوهرى والإجابة عنه مصيرية، فمصر لا تحتمل اهتزازات أخرى مماثلة تنال من ثقتها فى نفسها، وفى قدرتها على صنع مستقبلها.

بصراحة كاملة فإن تنحية العمل السياسى هو العنوان الرئيسى لحالة الاهتزاز التى لم يكن لها ضرورة.

فى غياب السياسة تقدم الإعلام لملء الفراغ، وسادت الفضاء العام صرخاته.

حيث اندفعت التعبئة الإعلامية إلى ما يقارب الهيستيريا تسربت الثقة العامة على نحو كاد يوحى أننا أمام نكسة عسكرية جديدة، ولم يكن ذلك حقيقيا على أى نحو ولا بأى حساب.

فى مثل هذه الأجواء المحمومة بلا سياسة ترشد وتطمئن تكشف الحقائق وتصنع التوافقات العامة أفلت بعض الكلام إلى التعريض العلنى بأهالى سيناء كأنهم إرهابيون مفترضون أو ليسوا جزءا أصيلا من الشعب المصرى، وانبرى خبراء استراتيجيون بلا معلومات يستندون إليها فى رسم الخطط وتوجيه القوات، وهو ما أغضب بمعلومات مؤكدة القيادات العسكرية فى الميدان.

سؤال آخر يطرح نفسه: عن ماذا اعتذر الرئيس لأهالى سيناء.. عن أخطاء الدولة أم عن خطايا الإعلام؟

الاعتذار بذاته قيمه سياسية وإنسانية تستحق الإشادة بلا تردد ووقعها إيجابى على أهالى سيناء، الذين تعرضوا لتنكيل إعلامى لا مثيل لخطورته على الأمن القومى المصرى منذ حرب أكتوبر.

باليقين فإن هناك آثارا جانبية للعمليات العسكرية والأمنية فى سيناء نالت من حقوق مواطنين وسلامة أبرياء ارتفع صوت أنينها بينما التعبئة الإعلامية الزائدة لا ترى فيها ما يستحق الالتفات والتصحيح، كأن من الطبيعى إهدار أى حقوق لمواطنين دفعوا أكثر من غيرهم فواتير تغول الإرهاب.

هذا هو موضوع التقدير والتحية والاعتذار لأهالى سيناء يتعهد دون أن يسهب بتصحيح أى آثار جانبية ويقر دون أن يفصح بخطايا التعبئة الإعلامية الزائدة.

مع ذلك كله فإن الاهتزاز قابل للتكرار فى ملفات أخرى غير الإرهاب والحرب معه.

أزمة العمل السياسى هى مركز الاهتزازات.. والأزمة تتصل بالقدرة على صنع التوافقات العامة وطبيعة الدولة ونظام حكمها والمستقبل نفسه.

لم يكن الأداء العام على مستوى يناسب التحديات بعد «كرم القواديس» ولا هو مرشح أن يرتفع منسوبه فى مواجهة أى تحديات أخرى.

عندما تعوز اللعبة السياسية أصولها، ويضيق المجال العام بقسوة فإن الرهان على الأداء العام تحليق فى الفراغ بلا أرض صلبة يقف عليها.

لا توجد بنية سياسية على شىء من التماسك، فالحكومة تفتقد كل ما له صلة بالسياسة بمعنى صناعتها وتحمل مسئوليتها والأحزاب السياسية شبه هشة تتكلم فى السياسة، لكن لا تمارسها وتفتقد أى صلة حقيقية بالشارع وما يجرى فيه من تفاعلات واحتقانات.

بمعنى أوضح تكاد لا توجد حياة حزبية فى مصر.

نشأت بصورة مشوهة جينيا على نهاية عهد الرئيس الأسبق «أنور السادات» وتفاقمت أزماتها فى عهد «حسنى مبارك» كله.

لم تخرج للحياة بصورة طبيعية والسلطة حددت بطريقة تعسفية من هو مسموح له بالعمل السياسى يسارا ووسطا ويمينا والأمن اخترقها منهجيا وحاصرها فى مقراتها سياسيا، ورغم محاولات بناء أحزاب قوية لها حضور جماهيرى كالتى بذلها «خالد محيى الدين» فى التجمع الوحدى و«فؤاد سراج الدين» فى الوفد الجديد و«إبراهيم شكرى» فى العمل الاشتراكى و«ضياء الدين داود» فى العربى الناصرى إلا أنها تقوضت عن عمد واختراق، وهذه قصة طويلة دعت نتائجها إلى ثورة شعبية قادتها قوى من خارج السياق فى مقدمتها حركة «كفاية»، التى كانت تعبيرا عن تمرد مزدوج على السلطة المترهلة طلبا لنظام جديد تستحقه مصر، وعلى الأحزاب السياسية التى استحالت أطلالا.

بانسداد القنوات السياسية اتسعت موجات الغضب، موجة بعد أخرى حتى وصلنا إلى يناير.

ورغم محاولات إحياء السياسة بعد تجريفها لعقود إلا أنه غلبت عليها النزعة الاحتجاجية.

اتسع التسييس العام لدى المواطن المصرى كما لم يحدث فى تاريخه الحديث كله، لكنه كان أقرب إلى المخاوف والقلق من البرامج والرؤى وفشلت الأحزاب بصورة شبه كاملة فى ضم القطاعات الشعبية إلى صفوفها، لم يكن لديها ما يقنع ولا كانت عندها برامج عمل ولا كوادر مدربة ولا توفر لها الوقت الكافى.

الأحزاب القديمة انتهت صلاحيتها على الأغلب والأحزاب الجديدة بدت أقرب إلى التجمعات الاحتجاجية وبعضها يشبه فى إدارتها الشركات الاستثمارية.

هذا كله لا يؤسس لحياة حزبية حقيقية يحترمها شعبها ويوليها ثقته.

لم يكن انهيار «جبهة الإنقاذ» فى أعقاب يونيو سوى تعبير جديد عن أزمة الحياة السياسية.

تأسست كفعل اضطرارى بعد الإعلان الدستورى الذى خَول فيه «محمد مرسى» نفسه صلاحيات شبه إلهية للتنكيل بخصومه.

نجحت فى أن تكون عنوانا على الغضب المصرى، ووقفت تحت مظلتها قوى شعبية واسعة غير أنها لم تنجح بأى قدر فى أن تقود فعل الغضب.

خروج «تمرد» عن السياق قبل يونيو يقارب من حيث الدلالات العامة خروج «كفاية» قبل يناير.

فى الحالتين تصدرت الأجيال الجديدة المشهد، وانضم إليها شعبها وحسم الجيش أمره، ولم يكن للأحزاب دور جوهرى فى المعادلات العاصفة.

فجوة الثقة بين الدولة وشبابها أزمة معلنة وتداعياتها تنذر كل من لديه بصيره.

خلل السياق السياسى يستدعى إعادة مراجعة شاملة فمصر لا تحتمل عودة أخرى للماضى بوجوهه وسياساته ولا تفريطا فى التماسك الوطنى بالحرب على الإرهاب.

كلام الرئيس عن الشباب وهمته وإخلاصه واحتياجه إلى يقف معه وأمامه فى محله، لكنه بذاته لا يقنع طاقات الغضب والرئاسات قرارات قبل أن تكون مناشدات.

وفجوة الثقة بين الرئاسة والأحزاب أزمة أخرى معلنة تستدعى حوارا تأجل طويلا.

صحيح أن الأحزاب شبه هشة وعافيتها متآكلة لكن الفكرة الحزبية من ضرورات الديمقراطية وتداول السلطة وبناء نخب سياسية جديدة قادرة على الحكم والمعارضة وفق ما تعرفه الدول، التى سبقتنا فى هذا المضمار.

الدستور أولا وأخيرا وفق التعهد الرئاسى هو المدخل الرئيسى لإحياء السياسة وتوسيع المجال العام.

هذا موضوع أى حوار جدى مع القوى السياسية والاجتماعية شبابا وأحزابا ومجتمعا أهليا.

إحياء السياسة ليست قضية سهلة ولا وقف اهتزاز الأداء العام مستحيلا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved