فوضى خلاقة فى التعليم

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 5 نوفمبر 2014 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

سمعنا ونسمع الكثير عن الفوضى البناءة والتدمير الخلاق. سمعنا أن دولا فى الغرب أو فى الشرق خططت ونفذت خططها لإثارة فوضى فى أقاليم معينة من العالم. هدفها فرض نظم وأفكار جديدة من خلال إثارة فوضى تزيل القائم ليصبح ممكنا إقامة جديد.

•••

أظن أن بعض الذين أصابهم انبهار هائل أو خوف عظيم من حديث الفوضى الخلاقة، استغرقتهم المبالغة أو التهويل. المدهش فى الأمر أن مسئولين كبارا فى دول عديدة يرددون الفكرة واثقين من حبكة خطتها وقوة مفعولها. هؤلاء المسئولون أنفسهم يمارسون العمل السياسى الخارجى أو الداخلى أو كليهما، ويعلمون حق العلم، فيما أظن وأتمنى، أن جوهر وهدف السياسة هو ممارسة القوة. بمعنى أن تكون الدولة أقوى من خصومها إلى حد يجعلها قادرة على إقناع الخصوم بالاستغناء عن أوضاع وتقاليد قديمة وإقامة أوضاع وقوانين حديثة بديلا لها.يشهد التاريخ منذ القدم على أن قادة المجتمعات السياسية فهموا السياسة على هذا النحو ومارسوا هذا الأسلوب أو غيره لتنظيم تناسب علاقات القوة بين مصالح دولهم ومصالح الدول الأخرى، واستخدموا كل الوسائل المتاحة، شريفة وغير شريفة، بسيطة ومعقدة، قصيرة وطويلة الأجل للمحافظة على فارق القوة.

•••

تعلمت فى الكتب وقاعات الدرس ومن الخبرة العملية فى بداية حياتى أساليب الأحزاب الشيوعية فى إثارة فوضى محدودة أو واسعة من أجل تغيير القائم وإقامة واقع جديد. وراقبت عن قرب، بل وأحيانا من قلب الأحداث الجارية، دولا تتدخل عن طريق زبائنها لنشر الارتباك فى نفوس شعب أو آخر ليضغط بدوره على حكوماته لتغيير أوضاع. وقرأت لفلاسفة هنود كتبوا قبل آلاف السنين ينصحون الحاكم بأن يبعث عملاء لإثارة الفوضى فى مناطق العدو وفى أقاليم على الحدود يئن سكانها ويعانون، قالوا إن الارتباك الناتج عن الفوضى فى بلاد الخصم رصيد إيجابى لهذا الحاكم ودليل قوة.

•••

قيل إن التعليمات التى حملها القادة العسكريون العاملون فى شركة الهند الشرقية، كانت تقضى بأن يثيروا الارتباك فى صفوف الشعوب الآسيوية. وتكرر الأمر فى أفريقيا بعد ذلك فى ظروف مختلفة. كان الهدف أن يصل الارتباك إلى حد أن يتخلى الناس عن تقاليد وطقوس عاشوا يمارسونها مئات السنين، وهى الطقوس والتقاليد التى فرضت عليهم أن يعيشوا حياة رتيبة وروتينية. كان المطلوب لنجاح الهيمنة الكولونيالية أن تكون المجتمعات جاهزة للتخلى عن القديم الثابت والسائد ومستعدة لاستقبال الجديد الوافد من الخارج.

قبلنا أم رفضنا، استسلمنا أم قاومنا، يجب أن نعترف أن جميع دول العالم الذى نراه أمامنا ونعيش فيه دخلت هذه التجربة. أمريكا، الدولة الأعظم قوة عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا، مرت بفوضى مؤلمة ومدمرة قضت على القديم. وكان فى هذا القديم الذى سقط ودمر تماما تقاليد وأديان ولغات وتاريخ. كانت هناك أنماط حياة تطورت قبل أن تركد وصراعات دموية بين قبائل الأمة الواحدة وممارسات بالفعل وحشية وأخرى أرقى من ممارسات عديدة جاء بها الغزاة الأوروبيون.

وفى الصين وقعت الفوضى المدمرة بأيدى تجار ودبلوماسيين وعسكريين أوروبيين يحملون «شتلات» من نبات الأفيون وأشجار الشاى. بثوا الفوضى فى كل قديم ودمروا إمبراطورية عاشت آلاف السنين، ولم ينهض الجديد تماما إلا بعد قرن كامل من أنواع شتى من «الفوضى الخلاقة» والحروب الأهلية وحرب مع اليابان.

ألمانيا وروسيا واليابان دول كلها مدينة بما حققت من تقدم ورقى لفترات قصيرة أو طويلة من الفوضى. ويدلنا التاريخ القديم على أن معظم الأديان لم تظهر والأفكار الخلاقة لم تنتشر إلا فى أعقاب مراحل فوضى إقليمية أو محلية شديدة، لعبت فيها الثورات والانتفاضات والهزائم والحروب والكوارث والمجاعات المدمرة أدوارا حاسمة.

•••

بعيدا عن السياسة خرج أحد الباحثين الاستراليين بدراسة يشير فيها على المسئولين عن التربية والمناهج التعليمية الأخذ بجانب واحد من جوانب نظرية الفوضى الخلاقة بهدف تحسين مستوى التعليم والارتقاء بملكات التلاميذ ومواهبهم. دخل الباحث فى مواجهة شديدة حين توجه بالنصح بأن يلجأ المدرسون إلى نشر الارتباك فى عقول التلاميذ كوسيلة لتوسيع مدارك التلاميذ وإثارة فضولهم. قال وبأعلى صوت ممكن «أربكوا التلاميذ تساعدوهم على التعلم».

يرى الأستاذ الباحث أنه ليس صحيحا بالضرورة الاعتقاد بأنه فى مهنة التدريس والتلقين الفهم أفضل من سوء الفهم، وليس صحيحا بالضرورة أيضا أن «الوضوح أفضل من الغموض». هناك فى بعض تجارب علم النفس والتربية ما يؤكد أن الطلبة الذين واظبوا على التعلم عن طريق الإرباك والغموض حققوا نتائج أحسن وحصلوا على فوائد أعظم وأوفر.

يقول الأستاذ موللر فى رسالة الدكتوراة التى قدمها إلى جامعة سيدنى إن طريقة التعليم السائدة والقائمة على الوضوح فى الشرح والبساطة فى العرض والروتينية فى التدريس تؤدى بالتلاميذ إلى أن يعتقدوا خطأ أنهم يعرفون كل شيء، وأنهم لا يحتاجون لمزيد من الدرس والبحث. اكتشف أيضا من دراسته الميدانية فى مدارس وجامعات متعددة أن التلاميذ يشردون خلال الشرح الواضح والبسيط بينما ينتبهون أكثر ويتابعون المدرس الذى يطرح عليهم أفكارا ومعلومات متناقضة ويثير أسئلة محيرة وينشر الفوضى فى طريقة تفكيرهم.

وقد اتضح للأستاذ موللر أن التلاميذ العاديين لا يرتاحون للتغيير والارتباك بينما التلاميذ المتفوقون والأذكياء يفضلون «بعض الفوضى»، وكل ما يتحدى الرتابة والملل. ويعترف أنه وجد صعوبة كبيرة فى وقف تنفيذ تجربة إثارة الارتباك فى فصول الدراسة.. وجد أن التلاميذ أنفسهم لم يتمكنوا من إعادة الانضباط إلى طريقة تفكيرهم بعد أن مارسوا التعقيد والغموض والبحث المثير والفضول الناتج عن الارتباك. خلص فى نهاية الأمر إلا أن تجربة من هذا النوع تحتاج إلى قيادة ماهرة وحازمة من جانب المدرس، وقدرة فائقة على التحكم فى مسار التجربة ووقفها فى اللحظة المناسبة.

•••

القادة السياسيون الأقرب إلى قلب المؤرخ وعقله، هم هؤلاء الذين قادوا شعوبهم إلى بر الأمان والاطمئنان فى فترات الارتباك والفوضى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved