هل أفلست مصر سياسيـًا؟

نبيل فهمي
نبيل فهمي

آخر تحديث: الأحد 6 يناير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تناولت وسائل الإعلام المصرية خلال الأيام الأخيرة من العام الماضى أخبارا وتصريحات وآراء مختلفة عن قرب إفلاس مصر اقتصاديا، وهو انعكاس لتردّى الأوضاع الاقتصادية، بصرف النظر عن وصولنا إلى مستويات الإفلاس الاقتصادى من عدمه، وإنما ما يقلقنى حقا هو قرب إفلاس مصر سياسيا، الذى هو الخراب، ومرحلة تسبق لجوء فئات المجتمع للتعبير عن أنفسهم بشكل عنيف وخارج نظام القانون.

 

يتوافر الإفلاس السياسى عندما تخفق مختلف التيارات السياسية فى تحقيق أى من أهدافها بالحوار والمنافسة، وتفشل فيه المؤسسات التنفيذية فى إدارة البلاد حتى فى توفير الحد الأدنى من مطالب الجماهير، وتفقد فيها المنظومة السياسية مصداقيتها ثم هيبتها إحداهما بعد الآخرى، والمحصلة عدم قدرة المصريين على التعامل مع بعضهم البعض، فهل وصلت مصر إلى ذلك وإلى أين تتجه؟

 

•••

 

حضر لمقابلتى منذ أيام قليلة سفير دولة أجنبية بالقاهرة مستفسرا عمن يحكم مصر، ليس بمعنى هل القرار بالمقطم أو الاتحادية، وإنما بأعمق وأخطر من ذلك لأنه كان يقصد أنه يصعب قراءة الوضع السياسى المصرى من حيث توجهاته أو استقراره، والنتيجة ستكون تردد الدول والمستثمرين الأجانب التعامل معه، أو قصر التعامل إلى حدود دنيا.

 

وكنت قبل ذلك بأيام قليلة فى جولة عمل خارجية سمحت لى بلقاء عدد من المسئولين العرب والأجانب، فاستشعرت منهم حيرة من توجهات مصر، وقلق على قدرة مصر تخطى المراحل القاسية القادمة.

 

يتعين علينا فى مصر التفكير فيما وصلنا إليه، ما نتجه نحوه، حيث تشبه مصر المزلقان المفتوح، يتجه نحوه قطارات وسيارات عاقدة العزم على التصادم، لغياب النوايا الحسنة أو القيادة الحكيمة.

 

•••

 

نجح شباب الثورة منذ عامين فى إفاقة المجتمع المصرى، وجعله يتمسك بحقه المشروع فى الإسهام فى تشكيل مستقبله، ونجح الشباب مؤقتا فى إعادة ثقة العالم وتقديره فى عظمة مصر ومكانتها، وهو إنجاز سيُسجَل لشبابنا بفخر واعتزاز، وإنما أخفق الشباب ومؤيدوهم سياسيا، لاعتبارات خارجة عن إرادتهم تارة، وعلى رأسها سوء إدارة المجلس العسكرى لمرحلة التحول السياسى، وأسباب أخرى سيتحمل الشباب مسئوليتها لرفضهم قبول حلول وسط مع تيارات سياسية مختلفة، فانتهت الانتخابات البرلمانية الأولى دون حصولهم على تمثيل ملائم، ومرت المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية بين مرشحين لا ينتميان للثورة فى الأساس.

 

وفشلت النخبة السياسية المصرية بمختلف توجهاتها. هل التيار السياسى الإسلامى على الحكم، ولكن وجد نفسه فى موقع الدفاع عن النفس، فتعامل بعصبية وتوتر مع الغير، لأنه أخطأ فى رغبته أن يحكم أحاديا، بمنظوره الفلسفى والأيديولوجى، مغفلا أن هدف الثورة كان الحرية والمشاركة فى تشكيل المستقبل، وسيستمر نزيف التأييد السياسى إذا تمسك هذا التيار بالحكم وحده، مكتفيا ببعض الدعوات لحوارات شكلية، لا تعكس استعدادا حقيقيا لقبول مشاركة الغير فى حكم مصر.

 

ولم تحصد التيارات السياسية الأخرى عائدا سياسيا مؤثرا من قربها للثوار والثورة، كان ذلك فى الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، أو حتى فى مؤسسات الدولة التنفيذية، لانقسامها على نفسها، وبعثرت مؤيديها، سعيا وراء طموحات شخصية قصيرة الأجل، بدلا من التركيز على متطلبات إقامة نظام سياسى مصرى يوفر إطارا للعمل السياسى للجميع، تُتداول فيه السلطة بسلاسة وفقا لتقدير الشعب وقراره. وعلى هذا التيار بلورة وثيقة عهد مشتركة ومُلزمة لممثليه فى البرلمان القادم أو مؤسسات الدولة، تشمل عددا من المبادئ الحاكمة والمشروعات العاجلة للأعوام الخمسة القادمة، باعتبارها مرحلة حرجة واستثنائية تتطلب وضع أسس الدولة المصرية الحديثة أواستعادة عافيتها، حتى وإن اختلفت الأهداف السياسية داخل هذا التيار على المدى البعيد.

 

وللأسف امتد التخبط والإخفاق إلى الجهاز التنفيذى للدولة، فشهدنا تصريحات وقرارات متضاربة متعددة، بين مؤسسة الرئاسة وأقرب المقربين للرئيس، وفيما بين مجلس الوزراء والمؤسسة الرئاسية. تحدث الرئيس عن النمو الاقتصادى، ورئيس الوزراء وأعضاء الحكومة والتقارير الرسمية للدولة عن صعوبة الأوضاع الاقتصادية، بل أصدر مجلس الوزراء قرارات اقتصادية رفضها الرئيس فنفى مجلس الوزراء صدورها، وتحدث رئيس الوزراء عن عدم اكتراثه لانخفاض سعر العملة المصرية فانخفضت مرة أخرى بما يتجاوز 5% بين الليلة وعشاها، وتحدثت تلك المؤسسات عن اللحظة التاريخية لإقرار دستور مصرى جديد فى حين لم يشارك فى الاستفتاء سوى 30% من الناخبين المسجلين. وعزل النائب العام، وعُينِ آخر، فاستقال ثم تراجع عن استقالته، فى تضارب ليس له مثيل، أفقد مصر مصداقيتها فى الداخل والخارج، فانخفض تقديرنا الائتمانى، وجمّد الاتحاد الأوروبى مساعداته الاقتصادية، وأوقفت سويسرا تعاونها فى مجال إعادة الأموال المنهوبة من البلاد.

 

•••

 

وصلت مصر إلى منعطف خطير لأن الداخل والخارج فقدا ثقتهما فى المنظومة السياسية، ولن نخرج من هذه المحنة إلا باستعادة مصداقيتنا من خلال تصويب أقوالنا وتغيير أفعالنا. على مؤسسه الرئاسة مصارحة الرأى العام بالواقع المصرى، وتجنب تصوير الأمور ورديا بخلاف ما يشعر به المواطن، بل بما يخالف التقارير الرسمية الصادرة عن مؤسسات الدولة، كما على مؤسسة الرئاسة إعادة النظر فى أسلوب اتخاذها لقراراتها، وفى العلاقة بينها وبين مؤسسات الدولة حتى تتجنب التصريحات المتناقضة من أعضائها وتكرار نفى الرئاسة مسئوليتها عن هذه المواقف، وحتى تمكن مؤسسات الدولة السياسية والأمنية والاقتصادية من القيام بدورها على أكمل وجه فى ظل هذه الظروف الصعبة التى تمر بها البلاد.

 

•••

 

وأخيرا على مؤسسة الرئاسة تبنى فلسفة الشراكة السياسية، على الأقل إلى نهاية الولاية الحالية للرئيس المنتخب وللدورة البرلمانية القادمة، وأن يكون ذلك بالأفعال والمواقف، ليس بمجرد الدعوة إلى حوارات. وتحديدا اقترح تشكيل لجنه مصغرة من الشخصيات العامة والخبراء بما لا يتجاوز 25 عضوا لمراجعة نصوص الدستور بشكل شامل خلال 6 أشهر، لتعكس مواده مصر الثورة، والحضارة، ومصر القرن الواحد والعشرين. والخطوة الثانية المطلوبة هى إشراف الرئيس وضمانه صدور قانون الانتخابات الجديد بما يوفر مشاركه وفرصة فعليه لأكبر قدر من فئات المجتمع. فالمطلوب أن ننتخب برلمانا جديدا يُمثّل فيه اكبر قدر من فئات المجتمع وتياراته السياسية، لكى نستعيد الثقة فى أن مصر للجميع وفوق الجميع، حفاظا على مصالح البلاد وتجنبا لمخاطر تتجاوز قدرات اى فصيل التصدى لها منفردا.

 

وهناك حاجة ماسة لتغير فلسفة وأسلوب إدارة حكومة الدكتور هشام قنديل فى المرحلة القادمة، فعمرها الافتراضى لن يتجاوز 5 أشهر، مما يجعل من العبث حديثها عن مشروعات كبرى، أو تقديمها لوعود برّاقة عن تنامى النحو الاقتصادى أو عودة السياحة حتى إلى نصف أرقامها الطبيعية، والمطلوب أن تتصرف كحكومة طوارئ وإدارة أزمات، لها أولويات ثلاث، أولها إعادة للسيولة النقدية للبلاد من خلال إنهائها التفاوض مع الصناديق الدولية المالية، وثانيها توفير الاستقرار الأمنى للبلاد، بما يوفر المناخ الملائم لاستئناف عجله إنتاج المصانع المعطلة، وبدء ارتباط الشركات السياحية لموسم الخريف القادم، وثالث المهام هو الإشراف على الانتخابات البرلمانية القادمة بحياده تامة وفى أمن وسلام وبشكل مطمئن للجميع.

 

•••

 

كل هذا مطلوب من مختلف الشعب المصرى، وخاصة من الرئيس محمد مرسى الذى تحمل المسئولية الأكبر باعتباره رئيسا منتخبا، ومعه التيار السياسى الدينى الذى يمثله، فلا تتحمل البلاد مرور الربع الأول من العام الجديد ونحن وغيرنا نتساءل عن من يحكم البلاد، بل نتساءل إذا كانت البلاد تُحكم بالفعل أم لا، فالإفلاس السياسى عواقبه عميقة وخطيرة على مستقبلنا جميعا، ولا يتصور ان يستجيب احد داخليا أو خارجيا لدعوات الاستثمار والتحاور، دون أن يستطيع تحديد كيف يتخذ القرار فى مصر، ومتى تستقر فيها الأمور، ولن يستجيب إلى دعواتنا إلا الطامعون فى مصر، الراغبين فى انتهاز معاناتنا لتحقيق مكاسب من مشاكلها، أو لخلق مساحة لأنفسهم للتأثير على قراراتنا وهذا جد خطير.

 

عميد كلية الشئون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved