ما بين المسئولية السياسية والمسئولية الجنائية عما يجرى من أحداث فى أرض المحروسة

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 6 فبراير 2012 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة

من المسئول عما يجرى من أحداث إجرامية فى مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ هذا ليس سؤالا أكاديميا يهم فقط المتخصصين فى القانون والعلوم السياسية، ولكنه يهم كل المواطنين الذين يتملكهم القلق من أن وطنهم الذين كان مضربا للأمثال فى الدعة والأمان صار مرتعا للقتلة وخاطفى الصغار وقطاع الطرق، ولم تعد الآية القرآنية الكريمة التى تستقبل القادمين إلى مصر «ادخلوها بسلام آمنين» تعكس الواقع فى البلاد فى الوقت الحاضر، لا بالنسبة للمصريين ولا بالنسبة للأجانب وقد تعددت حوادث الخطف والاحتجاز التى يعانى منها كلهم دون تمييز بحسب الجنسية أو النوع أو الدين أو العرق، فالكل فى مواجهة القلق من انتشار الجريمة سواء.

 

طبعا كل اعتداء على نفس بشرية هو انتهاك للحقوق الإنسانية للبشر قبل أن يكون انتهاكا للقانون، وهو موضوع للعقاب، ومسألة تحديد المسئولية الجنائية عنه مسلم بها، ولكن الذى يثير سؤال هذا المقال هو الاعتداء الجماعى على المواطنين سواء فيما جرى منذ سنة خلال أحداث الثورة أو ما جرى بعدها فى مناطق عديدة أشهرها ما عرف بأحداث ماسبيرو ومحمد محمود وشارع مجلس الوزراء، وأخيرا ستاد بورسعيد، وهى كلها أحداث ترددت بشأنها الدعوة لمحاكمة المسئولين عنها، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.

 

 

قصور المسئولية الجنائية

 

وقد كان الأسلوب المتبع فى مواجهة هذه الأحداث الجسام هو إحالتها للقضاء المدنى، والقضاء الجنائى تحديدا، الرئيس السابق وابناه وست من قيادات وزارة الداخلية يحاكمون فى الوقت الحاضر أمام محكمة جنايات القاهرة بتهم عديدة فى مقدمتها الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين خلال أحداث الثورة، ولم يقدم أى من المسئولين عن الجرائم التى تلت الثورة إلى المحاكمة بعد، ولكن قيل إن بعضها أحيل للتحقيق غالبا من جانب سلطات عسكرية، وفيما يتعلق بجريمة ستاد بورسعيد، فالتحقيق فيها يتولاه النائب العام ومساعدوه، ولا يبدو أن التعامل مع هذه الجرائم باعتبار أن المسئولية عنها هى مسئولية جنائية مرض للرأى العام أو للقوى السياسية الحزبية وغير الحزبية التى طرحت فكرة المحاكمة السياسية من خلال ما يشبه محكمة الثورة أو محكمة الغدر التى عقدها الضباط الأحرار للمسئولين فى النظام الملكى، وهى محاكمات أدارها الضباط الأحرار أنفسهم، ولا يلقى هذا الاقتراح قبولا من جانب بعض رجال القانون، بل وقسم من الرأى العام، وهم يعتبرون جميعا أن العدالة الثورية هى خصم للعدالة بصفة عامة. ولكن بصرف النظر عن هذا الاعتراض المبدئى على فكرة المحاكمات الثورية، فإن اقتصار المسألة على المسئولية الجنائية، وإحالة هذه الجرائم إلى القضاء العادى يثير احتمال أن ينتهى الأمر بتبرئة هؤلاء الذين يعتقد الرأى العام فى مسئوليتهم المباشرة عن تلك الجرائم، حتى وإن يكن ذلك هو ما انتهت إليه محاكماتهم.

 

وقد يدعو بطء محاكمة الرئيس السابق وقيادات وزارة الداخلية، بل وأحكام التبرئة التى صدرت بالفعل بحق بعض كبار ضباط الشرطة بالبعض إلى التشكك فى نزاهة القضاء، والتلميح بوجود تواطؤ بين بعض القضاة وجهاز أمن الدولة السابق الذى استبدلت تسميته إلى جهاز الأمن الوطنى، ولكن تفسير البطء فى المحاكمات بل وأحكام البراءة يعود إلى طبيعة عمل المحاكم الجنائية التى تستلزم فضلا عن ضرورة إعطاء الفرصة كاملة للمتهمين للدفاع عن أنفسهم من خلال محاميهم، وتستلزم ــ وهذا هو الأهم ــ أن يتوافر للمحكمة الدليل على أن الشخص المتهم قد أصدر أمرا مباشرا بإطلاق النار أو بقتل أشخاص محددين أو معروفين له بالاسم، وأن الذين أطلقوا النار أو قتلوا لم يكونوا فى حالة دفاع عن النفس. فإذا لم يتوافر هذا الدليل صدر الحكم بالبراءة. والواقع أن توافر مثل هذا الدليل أمر صعب للغاية فى مثل هذه النظم السلطوية التى كان النظام السابق واحدا منها، فالحكام الديكتاتوريون يختارون معاونيهم من بين هؤلاء الذين يستطيعون تفسير رغباتهم دون أن يفصحوا عنها، بل إن ذلك هو الشرط الأول لتعيينهم فى مثل هذه المناصب الحساسة، فهم بالنسبة لهم «من ذوى الألباب» الذين يفهمون بالإشارة بل وحتى دون أن تكون هناك إشارة لبراعتهم فى إدراك ما يريده الحاكم الديكتاتور دون أن يصرح به، والصعوبة الثانية تعود إلى طبيعة المرحلة الانتقالية فهى بحكم التعريف انتقالية، بمعنى أن جهاز الدولة القديم يتعايش فيها مع بعض العناصر الجديدة التى أفرزتها الثورة، ويمكن القول إنه فى حالة مصر تحديدا فإن الانتقال فى جهاز الدولة القديم لم يحدث على الإطلاق، فكل ما جرى فيه هو إزاحة قياداته المدنية العليا، ولكن القيادات العسكرية باقية كلها لم تمس باعتبار الموقف الذى اتخذته فى مواجهة رأس النظام السابق، كما أن القيادات الوسطى فى كل الأجهزة الأمنية فضلا عن أجهزة الدولة الإدارية محتفظة بمواقعها، بل وقد ارتقى بعضها إلى مناصب وزارية فى حكومة الدكتور الجنزورى الذى مال إلى اختيار وزرائه من بين تلك القيادات. والأمر الأهم من بقاء هذه القيادات الوسطى، أو بعبارة أدق الشريحة الإدارية العليا فى ظل نظام مبارك، هو أن ثقافة هذه الأجهزة لم تتغير، وعقليات من يديرونها وقيمها ثابتة على ما كانت عليه، ولذلك لا تجد بعض القرارات «الجيدة» التى اتخذتها حكومات شرف أو الجنزورى طريقها إلى التنفيذ بسرعة، مثل قرارات تعويض أسر شهداء الثورة أو المصابين فيها، والأخطر بالنسبة لموضوع هذا المقال هو عدم تعاون هذه القيادات مع النيابة العامة فى التحقيق الخاص بالمسئولية الجنائية عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين، لاعتقادهم الثابت أن قيادات الداخلية فى قفص الاتهام لم تخطئ، وأنها كانت تؤدى واجبها، أو حتى بدافع الولاء لهذه القيادات السابقة التى عينتهم فى مواقعهم وأغدقت عليهم بالمكافآت، أو لعداء صريح لفكرة الثورة. وقد اعترف ممثل الادعاء فى محاكمة مبارك بأن أجهزة الأمن والمخابرات لم تتعاون معه فى تقديم الأدلة التى يعتقد بتوافرها لديها والتى يمكن أن تكون دليلا مباشرا على ثبوت التهم الموجهة إلى تلك القيادات، وهو ما تندر به محامى مبارك بوصفه ما قاله ممثل الادعاء بأنه مجرد استنتاجات لا يقوم عليها دليل.

 

وهكذا فإن قصر محاسبة هؤلاء الذين تسببوا فى هذه الجرائم على مسئوليتهم الجنائية قد انتهى بالفعل إلى تبرئة بعضهم، وليس من المستحيل أن يكون ذلك أيضا هو ما قد تنتهى إليه محاكمة مبارك وابنيه وقيادات وزارة الداخلية، أو معاقبتهم عقابا خفيفا على جرائم طفيفة مثل الإهمال أو التقصير فى أداء واجباتهم، أو على انحرافات مالية يمكن لهم بمساعدة محاميهم التهرب بسهولة منها، دون أن يكون هناك أى تواطؤ من جانب قضاة المحاكم الجنائية، فهم بالفعل مقيدون بما يتوافر، أو لا يتوافر أمامهم من أدلة.

 

 

المسئولية السياسية ثابتة ومؤكدة

 

ومع ذلك، فليست المسئولية الجنائية هى النوع الوحيد من المسئولية التى يتحملها قادة أجهزة الدولة المكلفون أساسا دستوريا وقانونيا بحماية أمن المواطنين، طبعا هناك المسئولية الأخلاقية التى لا يبدو أنهم يقيمون وزنا لها، ولكن هناك المسئولية السياسية، وهى التى تعرفها كل المجتمعات الراقية، ولو كان مثل ما جرى فى موقعة الجمل أو أمام الكنائس أو فى ماسبيرو أو فى شارع محمد محمود أو أمام مكتب رئيس الوزراء أو فى ستاد بورسعيد قد جرى فى السويد أو اليابان أو ألمانيا أو بريطانيا، لكان القادة الحكوميون فى هذه البلاد قد بادروا بالاستقالة من مناصبهم اعترافا بمسئوليتهم السياسية.

 

ومعنى المسئولية السياسية أن القائد ملزم بأن يضمن الوفاء بمهمته، وهى فى هذه الحالة حماية المواطنين من الاعتداء عليهم وتهديد أمنهم، وتشمل عناصر المسئولية حسن تعيين من يساعدونه فى أداء هذه المهمة من أصحاب الكفاءة والعزم على أداء هذه المهمة بنجاح، وضمان اتباع السياسات والإجراءات الضرورية لذلك، ومتابعة تطبيقها، ومساءلة من يقومون بتطبيقها إذا هم أهملوا أو قصروا. هذه هى عناصر المسئولية السياسية التى لا يملك ذووا الأمر فى أى دولة أن يتهربوا منها.

 

فلتأخذ العدالة القانونية مجراها بالنسبة لهذه الجرائم، ولكن مع اعتقادى بأن وزير الداخلية وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليسوا مسئولين مباشرة عن جريمة ستاد بورسعيد، إلا أنهم يتحملون المسئولية السياسية الكاملة عنها، وعليهم أن يثبتوا بالفعل أنهم يعترفون بذلك. ولنفكر نحن فى إجراءات العدالة الانتقالية الأخرى التى نواجه بها مبارك وابنيه وكبار قيادات الداخلية السابقين عندما تصدر محكمة جنايات القاهرة أحكامها عليهم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved