جواسيس وعملاء

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 6 فبراير 2014 - 6:25 ص بتوقيت القاهرة

 كان خبرا عاديا اعتقال جاسوس فى الولايات المتحدة يعمل لحساب روسيا، واعتقال جاسوس فى روسيا يعمل لحساب الولايات المتحدة، وجاسوس فى مصر يعمل لحساب إسرائيل وجاسوس فى إيران يعمل لحساب إنجلترا. نادرا ما نسمع الآن أو نقرأ عن اعتقال جاسوس هنا أو هناك أو عن قضية جاسوسية كبرى معروضة على المحاكم، أو عن أزمة فى العلاقات بين دولتين فى أوروبا أو آسيا بسبب تورط مواطنين فى عمليات تجسس لصالح جهة أجنبية.

أفكر فى أن يكون السبب فى ندرة الأخبار عن الجاسوسية والجواسيس هو أن تكون مهنة الجاسوسية قد دخلت مرحلة انطفائها إما لانتفاء الغرض منها بعد أن احتلت مكانها قوى واختراعات الكترونية متنوعة، وإما لعزوف المغامرين عنها بعد أن بات الخطر فى ممارستها لا يتجاوز الاعتقال لفترة ثم التبادل مع زملاء فى دولة العدو تورطوا فى عملية تجسس. يحتمل أيضا أن يكون وراء انطفائها اكتشاف الانترنت والتوسع فى استخدامه. كلاهما جعل من المعلومات ثروة عامة متاحة.

من ناحية أخرى رأينا كيف أن هجرة الأدمغة والهجرة العكسية سمحتا لمزدوجى الجنسية باحتلال مناصب عليا فى أوطانهم الأصلية كما فى الجديدة. رأينا نماذج عديدة من مهاجرين عائدين إلى منصب الرئاسة فى دولة أو أكثر فى أوروبا الشرقية بعد اندحار الشيوعية، وفى دولة أو أكثر فى آسيا، والمثال البارز هو أفغانستان. رأينا أيضا تولى مهاجرين من أوروبا الغربية واستراليا أعلى المناصب فى الولايات المتحدة. كل هؤلاء حازوا على حق الاطلاع على أسرار الأمن العليا دون أن يعنى هذا الحق الشك فى ولاءاتهم.

<<<

لا نسمع عن الجواسيس إلا نادرا، ولكن نسمع بوفرة عن العملاء. أعرف كثيرين فى مصر وخارجها انشغلوا مؤخرا بظاهرة الإفراط فى إطلاق صفة العميل الأجنبى عند تصدى بعض المسئولين والإعلاميين لخصومهم. يلمحون كثيرا، وأحيانا يصرحون، بأن «العمل» الذى يقوم به شخص معين يرقى (أو يتدنى) إلى مستوى العمل الذى كان يقوم به عادة شخص مهنته الجاسوسية.

<<<

لاحظنا فى السنوات الأخيرة انه بين عديد المواطنين الروس والصينيين وبعض المواطنين الهنود والمصريين الذين وصفتهم أجهزة فى الأمن والإعلام فى بلادهم بصفة العمالة، لم نجد كثيرين ممن يثبت عليهم الاتهام بأداء مهمة كلفته بها دولة أجنبية. أغلب هؤلاء الأفراد وجدوا أن تجربة سياسية أو اجتماعية أو ثقافية معينة فى دولة أجنبية تستحق إعجابهم فتحمسوا للدعوة لها فى أوطانهم. ربما وجدوا تشجيعا من هذه الدولة الأجنبية، وهذا دائما حقها بدليل ان الدول تقيم مراكز إعلامية وسياحية وثقافية تتبع سفاراتها وفى صدارة المهام المكلفة بها الدعاية علنا لإنجازات بلادها. مصر مثلا لم تتقاعس فى عهود سابقة عن إبراز الجوانب الحضارية فى حياتها فأرسلت المبعوثين وفتحت جامعاتها للطلاب الأجانب، ولا أظن أن أحدا فى دولة عربية أو إفريقية أو آسيوية اتهم وزيرا تلقى تدريبه أو تعليمه فى مصر، بالعمالة لها.

أن يقال إن كل من يروج لإنجازات دولة أجنبية عميل فهذا تجاوز متعمد. أعرف بالتأكيد أن بعض جهات السلطة أو جماعات الضغط تتمنى أحيانا أن تسوء العلاقات مع دولة أجنبية بعينها، أو تسعى للوقيعة بين فئات الشعب أو التشهير بأشخاص فى الطبقة السياسية. أعرف أيضا أن التوسع فى استخدام صفة العمالة يمكن أن يودى بوحدة وطن، هذا بالضبط ما يجرى فى أوكرانيا فى هذه الأيام التعيسة من حياة شعبها. ففى روسيا اجتمعت أجهزة الدولة وأهم صحفها وقنواتها على هدف تصوير سكان غرب أوكرانيا الراغبين فى نقل التجربة الأوروبية الغربية وفى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى على أنهم «عملاء للغرب». يزعم حكام روسيا وأوكرانيا أنهم يعرفون مصلحة الشعب فى غرب أوكرانيا أكثر من الشعب نفسه.

ليس من حق أحد أن يقف ضد إرادة شعب أو أن يتهمه بالعمالة. من أنا حتى أقرر أن هذا الشخص أو ذاك عميل لمجرد أنه يعتقد أن مصر أو أوكرانيا أو جورجيا أو لاتفيا أو سوريا أو تونس تستحق أسلوب تنمية اقتصادية مختلفا عن الأسلوب الذى تسبب فى خرابها وفجر ثورتها. من منا له الحق فى حرمان شعب من الإعجاب بتجارب الآخرين. من هذا الشخص أو الجهة التى يحق لها أن تتهم بالعمالة مواطنا يرغب فى العيش فى مجتمع ملتزم بقيم ضد الفساد وتنمية تكترث بالفقراء ومتوسطى الحال. لم أسمع عن مبدأ أخلاقى يحرم على شخص أن يحلم بعلاقة مع السلطة أقل قمعا ومشاركة سياسية أرحب.

<<<

سئلت وسألت، لماذا يتعاطف أغلب الناس الذين أعرفهم مع كل من آسانج، الخبير الذى سرق أشرطة وتسجيلات لمراسلات أمريكية بالغة السرية، فيما عرف بعملية ويكيليكس، وسنودن، الخبير الآخر الذى كشف عن أكبر عملية تجسس فى العصر الحديث. نفذت هذه العملية الولايات المتحدة، بالتعاون مع بريطانيا واستراليا ونيوزيلاند، فيما يعرف بمجموعة العيون الأربع، بقصد التجسس على ممارسات واتصالات مئات الملايين من الناس فى جميع أنحاء العالم، مع التركيز على كبار المسئولين فى معظم الدول، ومنها الدول الحليفة للولايات المتحدة.

ثم لماذا يقرر نائبان فى برلمان النرويج ترشيح سنودن لجائزة نوبل للسلام، وهو الأمر الذى لا يمكن أن يحظى بموافقة أو ترحيب من جانب أغلب حكومات العالم. هذه الحكومات وهى نفسها من ضحايا التجسس الإلكترونى، لا تريد أن ترى مواطنين عاديين يتمردون على سطوتها واحتكارها للسلطة وأساليب القمع والتحكم.

خطر ببال كثيرين ان هذه الظاهرة، ظاهرة تعاطف الناس مع سنودن وآسانج من ناحية والغضب العارم عليهما من ناحية الحكومات، قد تجد تفسيرها فى حقيقة ان العالم يمر منذ سنوات بمرحلة شديدة الحساسية فى العلاقة بين الشعوب والطبقة السياسية. هى المرحلة التى شهدت صدامات متكررة بين «الأخلاق» و«السياسة». هى أيضا المرحلة التى نشبت فيها ثورات الربيع العربى، وشهدت إجراءات تصحيحية عديدة فى أمريكا الجنوبية، وتشهد حاليا تطورات، بعضها عنيف، فى معظم أنحاء جنوب وجنوب شرق آسيا.

<<<

وقع الصدام بين الأخلاق والسياسة خلال فترة هيمنت فيها القوى والأفكار النيوليبرالية على طبقة النخبة والحكم فى دول عديدة. حدث فى هذه الفترة أن توحشت بعض الممارسات الرأسمالية و«تغولت» أجهزة القمع، وبخاصة أجهزة التجسس والرقابة، التى انتهزت فرصة انشغال السلطة السياسية بأمور اقتصادية ومالية والانبهار بتضخم الثروات وتوسع التجارة العالمية، فراحت تجمع موارد مالية وتزيد أعداد عتادها وقواتها، وتكسب نفوذا على حساب الحقوق والحريات. وفى حالات كثيرة ومعروفة، وخصوصا فى أعقاب حادثتى التفجير فى نيويورك فى عام 2001، نجحت فى الانطلاق بكل طاقتها لتحتل مكانا متميزا فى دورة القرار السياسى والتأثير فى أمور داخلية ودولية كثيرة تحت حجة الحرب العالمية ضد الإرهاب.

خلال هذه الفترة، غابت القيادات السياسية المنتخبة والشرعية عن ساحة الإشراف والتدخل فى العديد من شئون إدارة المجتمع، وغابت أيضا عن تحديد «الأهداف» التى تسعى لتحقيقها أو تخريبها أجهزة الاستخبارات والجاسوسية، فراحت هذه الأخيرة تحدد بنفسها أهداف عملها. وهو التطور الذى سمح لها، ليس فقط فى الولايات المتحدة بل فى دول كثيرة، بأن تنسج شبكة تحالفاتها الخاصة مع قوى اقتصادية ومالية عملاقة، ونخب مثقفة واسعة، وشبكات بيروقراطية وأكاديمية، وبفضل ما آل إليها من نفوذ وموارد مالية ضخمة، راحت تستعمل أحدث ما وصلت إليه تكنولوجيات التجسس لتسيطر بها وتنفذ وتتحكم.

لم يكن مفاجئا أو غريبا والأمر على هذا النحو، أن تنشب معظم ثورات الآونة الأخيرة وانتفاضاتها فى وقت عجزت فيه النخب السياسية عن رؤية مجتمعاتها على حقيقتها بسبب هيمنة الأجهزة وحجبها المعلومات. تدخل الشارع عندما وجد نفسه فاقدا للثقة فى القيادة السياسية، وغارقا فى أزمة اقتصادية عالمية، وحائزا على نصيب متدهور من الحقوق والحريات السياسية والشخصية، وخاضعا لسيطرة شبه كاملة من أجهزة وقوى غير مرئية لا تخضع لرقابة دستورية ولا تحفل بالقوانين

يخطئ من يختصر تيار التغيير والإصلاح الصاعد والغاضب فى معظم أنحاء العالم فى كلمة العمالة أو «العملاء». يخطئ أيضا من يستهين بتيار التعاطف مع أشخاص مثل سنودن وآسانج، وغيرهما من رموز عصر التجديد والتغيير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved