أين تجد فلاحًا مثلى؟

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 7 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

قيل إنه، فى يوم مشمس بديع، خرج فلاح من داره فى وادى النطرون ليبيع الملح فى السوق فى بلدة بالقرب من الفيوم. وفى طريقه، قابل أحد موظفى المحافظة، فاستحسن الرجل منظر الحمار المحمل بالبضاعة، فأخذه عنوة، وضرب صاحبه وهدده إن هو اشتكى.

 

قال الفلاح متعجبا: تضربنى وتسرق حاجتى وتستكثر حتى الصرخة على فمى؟ ثم اتجه إلى مقر المحافظة ليقدم بلاغا لصاحب الأمر.

 

ظل الفلاح أمام مقر المحافظ تسعة أيام يشكو، فكان مما قال: «عُيِّنتَ فى هذا المنصب المسئول لتكون أبا لليتيم، وزوجا للأرملة، وأخا للوحيدة، وغطاء لمن بلا أم. فخذ وجهتك بلا جشع، وكن خاليا من الخسة، لتبدد الخداع وتظهر الحقيقة.

 

ها أنا أكلمك، فاسمعنى. حقق العدل يا من يمدحه المادحون وارفع الظلم عنى. انظر: حملى ثقيل. انظر: أنا مهموم وضاقت بى روحى. انظر: أنا حزين. انظر: العدالة تهرب منك، يختل الميزان وتخطئ الدفة. القضاة يتسببون فى الضرر، ومعيار الكلام هو المحاباة. من بيده الأمر يأمر بالنهب، فمن ــ إذن ــ يعاقب الشر إن كان طارد الفساد فاسدا، والمُقَوِّم منحرف، والقصاص منقوص والجرم ممتد والحسنات محبوسة فى الأمس؟

 

أنت الدفة، فلتقودنا نحو الحق.

 

التاجر الماهر لا يعرف الجشع، أما أنت فقلبك طماع وهذا لا يليق بك. فى بيتك ما يكفيك، شبعان أنت بالخبز غنى بأنواع القطن والكتان. أنت تسلب ــ وهذا لا تحمد عليه؛ فعلى صاحب العيش أن يكون رحيما، فالعنف لا يكون إلا للمحروم، والسرقة لا تليق إلا بالمُعدم، أما الظالم الحق فهو من يسرق دون احتياج.

 

ليكن لسانك دقيقا مضبوطا كى لا تضل الطريق. لا تنطق كذبا، واحذر الحاشية فالكذب خفيف على قلوبهم.

 

انظر يا منقذ الغرقى: مرفأك تحوطه التماسيح، انظر إلىّ أحافظ على المسار الحق وأنا دون مركب. أين تجد فلاحا مثلى؟

 

كن كالشمس وكن كالنيل: حاجات الكل عندك سواء، لتخْضَّر الحقول بك وتعود الحياة للأراضى المجرفة. عاقب السارق وابسط حمايتك على الفقير. لا تكن كالطوفان ضد من يلجأ إليك. اذكر الحياة الأبدية وارغب فيها فهى آتية، وفعل العدل هو نَفَسُ الحياة كلها.

 

هل يمكن أن ينحرف الميزان؟ هل يُعقَل أن يميل إلى طرف دون طرف؟

 

احذر: فاستقامة أمور البلاد ليست إلا فى العدالة. لا تنطق زورا. أنت ذو ثقل فلا تكن خفيفا. لا تنطق زورا فأنت الميزان. لا تنحرف فأنت المقياس، لا تخرج عن الصراط فالدفة فى يدك، لا تسرق بل كن ضد السارق؛ فالعظيم ليس عظيما إذا طَمِع. إن خبأت وجهك من رجال العنف من إذن يقف فى وجه الشر؟ انظر: أنت حارس خائب، مدمر للصداقة، تهجر الرفيق الند لتجالس من هم دونك، تؤاخى من يأتيك بما نهب. انظر: أنت النوتى لا تحمل سوى من يؤجرك، رجل مضبوط انفطر انضباطه، مدير مخازن الغلال تستخلص الغرامة من المعدم. انظر: فأنت حدأة تعيش على أرقّ الطيور، أنظر: فأنت طباخ تفرح للذبيح، انظر: فأنت راعٍ لا يعرف كيف يعدّ رعيته؛ مصيبتى أنك لا ترعى ولا تعدّ، فالخسران على يدك، ومرفأ البلاد أنت لا تحميه من التماسيح. يا سامع: أنت لا تسمع. لماذا لا تسمع؟ ها أنا قد حاربت المعتدى وطردت التمساح، فما قيمة هذا عندك؟ حين نجد الحقيقة تنهار الأكاذيب. اعمل الآن، فنحن لا نعلم ما يخبئه الغد».

 

قام رجال المحافظ على الفلاح فضربوه بالعصى والكرابيج. فقال: «لا زال الحاكم يخطئ، محكوم عليه بالخطأ فهو لا يبصر ما يراه ولا يعى ما يسمعه ولا يفهم ما يقال له … انظر: فأنت شرطى لص، ومحافظ مرتشٍ، ومأمور مُحَرِّض، وقدوة لفاعل الشر… انظر: لا جدوى من الحديث معك، الرحمة لم تسكن فيك، فيا لغُلب الغلابة الذين تنتهكهم. انظر: فأنت قناص غَسَلَ قلبَه…

 

علم قلبك الصبر ليعى الحقيقة. على العين أن تبصر كى يَعْلَم القلب. لا تكن قاسيا لأن فى يدك سلطة. لا تفتح للشر طريقا إليك. عُيِّنتَ لتسمع القضايا، لتحكم بين الناس، لتعاقب المعتدى. لكنك تنصر السارق. أنظر: كنتَ من أهل الثقة فصرت معتديا. عُيِّنتَ لتكون للفقير سدا منيعا، فانظر: انه يغرق. أنظر: أنت الطوفان الذى يسحبه إلى الهلاك.

 

لا تتكاسل، افحص القضية، وأقم العدل. إن قطعت أنت الأواصر، فمن يصلها؟

 

إن غَرَسَت المركب يمكن إنقاذها، لكن حمولتها تضيع. أنت متعلم، مثقف، ماهر ــ لكن أحوالك بها عَوَج. من نفترض فيه الاستقامة يغش البلاد كلها، يروى الأرض بالشر وينتظر الثمار. هل أنت أيقظت النائم؟ هل شجَّعت الصامت على الكلام؟ هل أضأت طريقا للمكلوم؟ ليس هناك فم مغلق فتحته أنت، ليس هناك جاهل واحد علَّمته.

 

المعلمون هم أرباب الخير، والصناع الذين يصنعون ما يكون، من يصلون الرأس بالجسد.

 

أنظر: لم يمنعنى الخوف من أن أحادثك. أنا الصامت الذى استدار ليحكى لك عن همومه، ولا يخاف أن يتحدث. أرضك فى الريف، وخبزك فى بيتك ومؤنك فى خزانتك. حاشيتك يعطونك فتأخذ. ألستَ إذا لصا؟ يحرثون الأرض لك، وحين نأتيك نجد العسكر عندك لتقسيم الأراضى. ألستَ إذاً لصا؟ إعمل الحق لأجل خاطر رب الحق.

 

أنت يا قلم الكاتب ويا صفحة الكتاب، يا مجموعة الألوان.. عليك أن تنأى بنفسك عن الظلم. أنت يا مفضَّل، عليك أن تكون جد فاضل. الحق وفيٌّ إلى الأبد؛ يصحب من يعمل به إلى العالم الآخر، فحين يُلَّف فى الكفن ويوضع فى التراب لن يزول إسمه من الأرض بل سيذكره الناس.

 

أنظر: لو لم آتيك أنا سيأتيك غيرى، عندك الفرصة أن تتحدث كإنسان يجيب ويستجيب، أن تتحدث كمن يخاطب الصامتين، أن تتحدث كمن يستجيب حتى لمن لم يحدثه.

 

أنت لم تدَّعِ المرض ولم تهرب ــ لكنك لم تمنحنى ردا على هذه الكلمة الجميلة التى تأتى من الرب نفسه: قل الحق، وليكن أداؤك حقا، فالحق عظيم، والحق جبار، والحق دائم، والحق يأتيك بالفضل الحق، والحق يأتيك بالهيبة. فهل ينحرف الميزان؟ هى كفة الميزان توضع عليها الأشياء وفى الميزان الحق لا نقص ولا خسران».

 

هذه القصة التى لم نسمع بها، للأسف، فى مدارسنا المصرية، إلا كحدوتة سطحية تُدعى «الفلاح الفصيح»، يتضح أنها نص كُتِبَ فى بدايات الدولة الوسطى (أى فى نحو عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد)، حين كانت مصر تلملم أطرافها من عصر الاضمحلال الأول (الذى أعقب انهيار الدولة القديمة) وتبحث عن أفكار وعن منظومة قيم جديدة تبنى عليها نهضتها. لا نعلم بالطبع من كتب هذا النص، فالفنان والمثقف المصرى القديم لم ير ضرورة للتوقيع على أعماله، لكننا نعلم أن الدولة الناشئة تبنته، وأنه صار النص المفضل لتعليم القراءة والكتابة لكتبة مصر، أى طبقتها المتعلمة من موظفى الدولة والمثقفين، فنُسِخ آلاف المرات، وهذا ما أتاح له أن يصل إلينا اليوم، بعد أربعة آلاف عام.

 

الدولة الوسطى رأت ألف عام من الازدهار، قام على مشروعات الرى والاستزراع الجبارة، وعلى حفر القنوات وعلى تحديث الاتصالات وعلى الانفتاح والتجارة والتعليم. وقام على منظومة قيم يعبر عن جزء منها هذا النص الذى استلهمه فنان مصرى من خطاب المصريين فوضعه على لسان أكثر الفئات تهميشا: فلاح من وادى النطرون، يطالب الحاكم بالعدالة والنزاهة، يحدثه عن الحقيقة والعدالة الاجتماعية، يعلن عدم خوفه من السلطة، ويفتخر: «انظر إلىّ أحافظ على المسار الحق وأنا دون مركب. أين تجد فلاحا مثلى؟» على أكتافه بَنَت مصر نهضتها. لنقرأ نصه اليوم ونحن بصدد انتخاب رئيس وكتابة دستور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved