زيارة جون كيرى القاهرة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 6 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

كشفت جولة وزير الخارجية الأمريكية فى منطقتنا العربية، لا سيما فى محطتها الأولى بالقاهرة، كم تبالغ الإدارة الأمريكية فى اطمئنانها إلى النتائج السياسية للانتفاضات العربية وقدرتها على احتوائها.

 

لقد تبدى من خلال سلوك الوزير جون كيرى وكأنه واثق أن السلطات التى قفزت إلى سدة الحكم بمصادفة قدرية وتحت لافتة الانتفاضات الشعبية لن تجد «مرجعية» تعود إليها فى تحديد مسار هيمنتها وتأمين نجاحها وتخطى مأزقها الاقتصادى إلا فى واشنطن ومجال نفوذها الحيوى المفتوح الذى قد يكون مدخله صندوق النقد الدولى ولكنه يشمل فى ما يشمل الصناديق الخليجية والتى مفاتيحها فى الأيدى الأمريكية.

 

ثم إن الوزير الأمريكى قد تصرف وكأنه «مرجعية الجميع» يستوى فى ذلك من يتولون مقاليد الحكم ومن هم فى موقع المعارضة، فضلا عن «الشارع» الذى جهر برفضه من فى السلطة من دون أن يسلم بقيادة مطلقة لـ«جبهة الإنقاذ الوطنى» لافتراضه أنها أعجز من أن تحمل مطالبه لأنها ليست «جذرية» بما يكفى، وليست موحدة بما يؤكد استقطابها للقوى الشابة التى ابتدعت الميدان وثبتت فيه كسلاح مؤهل لان ينجز إسقاط الطغيان.

 

لقد بسّط الوزير كيرى المسألة: الرئيس الإخوانى فاز فى الانتخابات فهو، إذن، التجسيد الحى للديمقراطية، ولا يعيبه أنه لم يحصل إلا على نسبة متواضعة من أصوات الناخبين، فذلك مبدأ ديمقراطى، من تصب له الأكثرية النسبية هو الفائز.. وهذا معمول به فى مختلف أقطار الدنيا، وفى الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.. أما كونه ينتمى إلى «الإخوان المسلمين» فليس مصدر قلق، ليس فقط لأن «إخوان» الألفية الثالثة هم غير «إخوان» القرن الماضى بل لأن الولايات المتحدة الأمريكية قد غيرت نظرتها إلى «الإسلاميين» واختارت أن ترعاهم وتشجع انخراطهم فى اللعبة السياسية داخل أقطارهم، وصولا إلى تسلمهم سدة السلطة فيها ليواجهوا بإسلامهم المعتدل أولئك المتطرفين الذين اختاروا طريق الإرهاب الدموى على غرار «القاعدة» ومشتقاتها.

 

أما المعارضة ممثلة برموزها فأمرها هين: فبعض ابرز هؤلاء مشبع بإيمانه بالديمقراطية الأمريكية، وبعض آخر ينظر إلى الولايات المتحدة بوصفها المرجعية الكونية ومصدر القرار الأخير فى شئون الدول جميعا، فى الشرق والغرب، من رضيت عنه وصل ومن تحفظت عليه لم يعرف طريقه إلى السلطة مهما بلغت «شعبيته» فى الشارع.

 

يبقى أولئك الذين يفترضون أنهم بقوة التأييد الشعبى يستطيعون التحكم باللعبة السياسية فستثبت لهم الأيام أنهم واهمون..

 

ثم إن فى واشنطن خبراء فى اصطناع الزعامات الشعبية، وفيها من بلغت مهارته حد «بيع» الناس قيادات مستولدة حديثا ولكنها تتمتع بجاذبية وبخطاب سياسى مؤثر وقادر على استقطاب الجماهير بالشعارات البراقة وبالإحصائيات التى تؤكد خبراته وموقفه بأعماق المجتمع.. وليس ما يمنع من أن تحفل طريقه إلى الزعامة بقدر من الهجوم على الإمبريالية وقدر من الاعتراض على سياسة إسرائيل التوسعية.

 

•••

 

لم يلتفت جون كيرى إلى ما حدث فى «الشارع»، داخل القاهرة أو فى المدن المصرية الأخرى كبورسعيد والمنصورة وغيرها التى بلغ الغضب فيها حد العصيان المدنى، وأحيانا حد التصادم مع «الإخوان» المسلمين الذين تصرفوا وكأنهم «السلطة»... ولكنه بالتأكيد قد انتبه إلى أن طريقه إلى المطار، فى الخروج من القاهرة، قد اختلفت عن طريق دخوله.. ولا بد أنه سأل عن الأسباب التى فرضت هذا التعديل فى خط السير!.

 

المهم أن الوزير الامريكى قد تحقق، وبالملموس، وعبر زيارته القصيرة، أن الحكم الإخوانى فى مصر ليس وطيد الأركان، وأن الشعب فى مصر لم يسلم قياده للتنظيمات الإسلامية، وأن مصر ما تزال تعيش حالة اضطراب شديد، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، لا تنفع فى علاجها النصائح ولا الوعود بالقروض ولا بالتشديد على ضرورة الحوار..

 

على أن الأخطر أن «المصريين» عموما «لم يستقبلوا الوزير الامريكى بوصفه المرجعية السياسية وصاحب القرار فى شأن حاضرهم ومستقبلهم... فلا المعارضة سارعت إلى لقائه للتظلم أمامه ومطالبته بالتدخل من أجل إشراكها فى السلطة بوصفها «قوى صديقة»، ولا الشارع بدا مرحبا أو حتى: محايدا»، وإنما اعتبر انه قد جاء ليدعم الحكم الذى تسببت قراراته المرتجلة، أو الموصى بها، فى إفقاده الكثير من هيبته ومن مشروعية تمثيله للانتفاضة، أى للإرادة الشعبية التى تطمح لصياغة « عهد ما بعد الطغيان»، وترفض أن تسلم بحكم الإخوان وكأنه قدر لا مفر منه.

 

لم ينجح الوزير الأمريكى فى إظهار بلاده مرجعية لمصر فى طورها الثورى الجديد، بل لعله أكد من حيث لم يقصد أن الإدارة الأمريكية ما زالت تتصرف مع مصر وكأنها لم تغادر موقع تصنيفها السابق، وأن ما حدث فيها يمكن استيعابه ببعض اللقاءات مع معارضين للنظام الجديد ولكنهم أصدقاء دائمون لواشنطن، خصوصا وأنهم لا يملكون خيارا آخر... بغض النظر عن موقف « الشباب المتحمس» ومدى تأثيرهم على القرار فى العهد الإخوانى.

 

ولقد أكد هؤلاء الشباب حضورهم القوى ليس فقط فى رفض حكم الإخوان بل كذلك فى مواجهة جبهة الإنقاذ التى لم تنجح فى إقناعهم بأنها قيادة المستقبل، خصوصا وأنها لم تؤكد ــ حتى الساعة ــ وحدتها ككيان سياسى مؤهل لمواجهة ستكون قاسية حتما مع حكم الإخوان الذى يتمتع بحماية دولية وعربية فضلا عن أنه يملك إمكانات مادية وفيرة فى الداخل والخارج، ولا سيما فى الخارج.

 

وليس من باب سوء الظن الافتراض أن الوزير الأمريكى قد يسعى، بعد القاهرة، وخلال لقاءاته مع المسئولين فى السعودية وسائر دول الخليج إلى مطالبتهم بالمبادرة إلى إنقاذ الحكم الإخوانى بالمساعدات والقروض، مما يساعد على تثبيته، بما لهذا التثبيت من أهمية فى ضمان أمن هذه الدول فى مواجهة «التهديد الإيرانى» و «الخطر الشيعى» الذى يسعى لتبديل هوية المنطقة.

 

فلقد جرت العادة أن تقدم الإدارة الأمريكية «مبلغا رمزيا» كمساعدة وكإيعاز معلن «للأصدقاء الأغنياء» بأن يهبوا لإعانة النظام الجديد لتثبيت مصر فى موقعها الأساسى والحاكم فى سياسات المنطقة عموما، وفى أمنها على وجه التحديد.. مع التذكير دائما أن فى ذلك حماية لأهل النفط وأساسا حماية لتطبيع العلاقة مع إسرائيل التى سقطت من أدبيات الإخوان من قبل وصولهم إلى السلطة، ثم اكتسبت صفة «الصديق العزيز» كما ورد فى رسالة الرئيس محمد مرسى إلى رئيس الكيان الإسرائيلى شيمون بيريز.

 

•••

 

لقد جاءت زيارة الوزير الأمريكى لتكشف ضعف الحكم فى مصر، وغربته عن أن يكون تجسيدا للانتفاضة التى خلعت سلفه، علما بأن هذا الضعف قد تبدى فى قراراته المتناقضة، وفى تعهداته التى كثيرا ما تنقضها مرجعيته الحزبية.

 

وواضح أن هذا الحكم يبحث عن أى عون، ولو من « مصادر غير صديقة»... وهذا ما يؤكده إيفاد رئيس حكومته إلى بغداد، فى محاولة لأن يكسر « وحدانية توجهه» من جهة، وسعيه إلى أية نجدة عاجلة، مستفيدا من حاجة الحكم فى العراق، الذى يعانى بدوره مصاعب جمة، إلى فتح الأبواب والنوافذ ليكسر حدة الحصار الخليجى (والغربى) عليه بتهمة انه « إيرانى الهوى».

 

والمعادلة صعبة: بين طلب التغطية السياسية من المسئولين الأمريكيين والمساعدة الاقتصادية من الخليجيين، وفى الوقت ذاته استعادة «العلاقة الحميمة» مع أهل الحكم فى بغداد التى يناصبها الجميع العداء، فإن سلموا بضرورة العلاقة معها جعلوها فى حدها الأدنى، كما تبدى واضحا خلال القمة العربية التى انعقدت قبل شهور فى العاصمة العراقية.. تماما كما هى المعادلة صعبة بين أن ينفرد الإخوان بالحكم فى مصر، وفى محاولة التمكين لهيمنتهم بالدستور المرتجل بالحوار مع الذات، واستبعاد القوى الوازنة شعبيا بحيث تكاد تكون الأكثرية، ثم الادعاء بأنهم يقيمون جمهورية ما بعد الطغيان، وجمهورية حكم الشعب بالشعب.

 

•••

 

وفى كل الحالات فإن طريق مصر إلى الاستقرار يبدو طويلا جدا وشاقا جدا.. حتى بعد زيارة جون كيرى، بل لا سيما بعدها.

 

 

 

رئيس تحرير جريدة « السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved