إعادة رسم خرائط المشرق على قاعدة مذهبية

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 6 مايو 2015 - 9:30 ص بتوقيت القاهرة

تجاوز الحديث عن مرحلة «الحروب» التى تمزق أقطار المشرق العربى، ما بين سوريا والعراق وصولا إلى اليمن، التخمينات والتقديرات، وباشرت الدوائر المتصلة بأجهزة المخابرات الغربية الحديث عن خريطة جديدة لهذا المشرق ودوله، لا سيما بعد التطورات الميدانية الأخيرة فى كل من هذه الأقطار.

فى هذا المجال، تبرز زيارة الزعيم الكردى مسعود برازانى، رئيس إقليم كردستان العراق، لواشنطن يسبقه إليها مطلبه المعلن بتثبيت انفصال إقليمه (كردستان)، الذى يتمتع الآن باستقلال ذاتى فى إطار دولة العراق.

وهو قد وجد فرصته فى الحرب التى شنها «داعش» على العراق واستيلائه على مدينة الموصل ومحافظتها وأجزاء من محافظات أخرى جعلته على أبواب بغداد، لرفع الصوت مطالبا بأن تكون كردستان دولة مستقلة ذات سيادة، تربطها بسائر أنحاء العراق علاقات حسن جوار كالتى بين الدول، وضمنها اتفاق واضح حول نصيب كل من الدولتين فى نفط العراق جميعا.

بالمقابل، فإن عشائر الأنبار قد وجدوا، عبر «الحرب» التى شهدوها بين الجيش العراقى ومعه وحدات «الحشد الشعبى» على أرضهم، من يحرضهم على الانفصال الكامل عن دولة العراق بزعم أن الهيمنة على البلاد جميعا ستكون للشيعة، ولن يكون للسنة فيها أى دور فى الحكم وأى نفوذ، بغض النظر عن النهج المعتمد حاليا فى تقسيم السلطة على «المكونات» الثلاثة: الشيعة العرب والسنة العرب والكرد.

***

ويعتمد من يحرّض عشائر الأنبار على الانفصال منطقا محددا: إن الملجأ الفعلى للتخلص من هيمنة الشيعة يتبدى فى طلب ضم الأنبار إلى المملكة الأردنية الهاشمية، كون الحكم فيها للسنة، ثم إن لهم أقارب وصلات رحم مع بعض العشائر فى الأردن، فضلا عن أن الملك فيها هاشمى سنى، وهو فى منزلة ابن العم للملوك الهاشميين الذين حكموا العراق بين العشرينيات وأواخر الخمسينيات حين قام الجيش بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم بخلع الملك الهاشمى وإعلان الجمهورية (14 يوليو ـ 1958).

ويعيش الملك الهاشمى عبدالله بن الحسين مرحلة من القلق، فهو لا يطمئن إلى السعوديين الذين «يذلونه» كلما طلب مساعدتهم لتمويل احتياجاته.. فى حين يرتاح إلى «دفء العلاقة» مع إسرائيل التى جعلته فى موقع «الشريك»، وهكذا وقعت حكومتها مع الأردن اتفاقا مفتوحا لإمداده بالنفط والغاز قيمته مليارات الدولارات، كما سهلت له سبل الإفادة من مشروع زيادة منسوب المياه فى البحر الميت، وذلك لضخ مياه إضافية عبر قناة تصله بالبحر الأحمر، عند خليج العقبة.

كذلك فإن الملك عبدالله الثانى يتلقى تطمينات إسرائيلية متواصلة حول احتمال نزوح المزيد من الفلسطينيين إلى الأردن، بسبب ضيق أبواب الرزق فى الضفة الغربية والتزايد المتواصل فى عدد السكان فيها.

بالمقابل، فإن الحرب السعودية على اليمن تتكشف مع عنف تواصلها وجسامة التدمير الذى يحل بالمدن والبلدات ومعسكرات الجيش وصولا إلى المطارات والموانئ، لا فرق بين مطار مدنى وآخر عسكرى، عن أهداف عتيقة مضمرة وقد جاء وقت الإفصاح عنها: فالمملكة مترامية الأطراف تريد مرفأ على بحر العرب، يوصلها مباشرة إلى المحيطين الهندى والأطلسى و«يحررها» من مخاطر القبضة الإيرانية على الخليج العربى.. وهذا المرفأ يقع فى حضرموت، ولا بد من صيغة ما مع هذه المحافظة اليمنية الغنية بمواردها الطبيعية كما بكفاءات أهلها، الذين أسهم الكثير منهم فى بناء الإدارة فى المملكة المذهبة، كما تقدموا الصفوف فى التجارة وفى عالم المقاولات حيث تتربع أسرة بن لادن على قمتها.. وليس سرا أن شركات بن لادن هى التى تولت تنفيذ معظم مشاريع الإعمار والطرق فى مختلف أرجاء المملكة، بل إن بعض المدن الجديدة ومنها الطائف كانت معزولة لارتفاعها، وإحدى شركات بن لادن ـ الأب المؤسس ـ هى التى شقت الطريق الصعب فى قلب الجبال لربط هذا المصيف الجميل بسائر أنحاء المملكة، ولا سيما الحجاز.

ثم إن أرض حضرموت، كما أبلغ بعض الخبراء تحتوى على كميات محترمة من النفط والغاز.. ويُقال إن السعودية هى التى منعت، بتدخل معلن، الشركات الكبرى من إكمال التنقيب، وأساسا: من إعلان نتائجه المذهبة.

وأخيرا، فإن الأهالى فى جنوب اليمن هم بالكامل من أهل السنة (الشوافع)، واجتياح الحوثيين بالتواطؤ مع على عبدالله صالح، يمكن إدراجه فى خانة «قهر أهل السنة» بالقوة.

***

ولأن الغاية تبرر الوسيلة، فقد تم تسويق حرب «عاصفة الحزم» السعودية على اليمن بذرائع طائفية، وأخطرها تصوير الحوثيين وكأنهم مخلوقات من خارج مدى الأرض هبطوا فجأة بطائرات إيرانية فى اليمن محاولين السيطرة عليها بالشراكة مع «عدوهم» إلى زمن قريب، الرئيس السابق على عبدالله صالح، وهو الآخر «زيدى» المذهب.. وهكذا، فإن السعودية إنما تصد «حربا شيعية» على سنة اليمن، وتحمى عروبة اليمنيين السنة من الغزو الشيعى الإيرانى!

وفق هذا المنطق تصبح الحرب فى سوريا وعليها حربا لاستعادة «السنة»، وهم الأكثرية الساحقة فيها، زمام القيادة فى عاصمة الأمويين، بعدما «اغتصبها» العلويون لنحو ستين سنة، بالقوة، بعد تصفية المواقع القيادية فى الجيش من القادة من أهل السنة.

هكذا يتم إسقاط «السياسة» من الحساب، وتصير «عاصفة الحزم» تحريرا لأهل السنة فى اليمن من هيمنة الحوثيين خصوصا والزيديين عموما على القرار فيها، علما بأن الأئمة من آل حميد الدين، وهم «زيود»، قد حكموا اليمن أكثر من سبعة قرون من دون أن يعترض «الشوافع» فيها على هذا الحكم.. خصوصا أن أهل اليمن، عموما، قد تخففوا منذ دهر من آفة الطائفية أو المذهبية، ويعتبر الشوافع «الزيود» قريبين منهم، فى المذهب، أكثر من الشيعة الإماميين أو الإثنى عشرية.

صار لدينا ثلاثة أقطار، أو دول، مطلوب تحريرها من حكم الشيعة، أى وبصراحة مطلقة: إيران.. واستعادتها إلى حضن مذهب الأكثرية الساحقة فى الأرض العربية، أى أهل السنة.. ولا بأس من إرجاء الحديث عن لبنان وموقع كل من طائفتى الشيعة والسنة فى مركز القرار فيه.

لا تحتاج هذه الخطط إلى تبيان مؤداها أو نتائجها على الأرض: إنها «الفتنة الكبرى»، مرة أخرى، تُعاد أو تُستعاد بعد نحو أربعة عشر قرنا، وبذرائع طائفية أو مذهبية لتغطية الغرض السياسى.

بهذا المعنى تفهم «خطبة الحرب» التى ألقاها الملك السعودى سلمان بن عبدالعزيز فى قمة شرم الشيخ، مشفوعة باستنفار «الدول العربية السنية» ـ ومعها باكستان ـ لصد الغارة الإيرانية (الشيعية) على اليمن، والسعى لتجنيد الدول العربية، السنية تحديدا، من الأردن إلى المغرب مرورا بمصر، مع محاولة لاستدراج الجزائر، ومحاولة تحييد العراق.. أما سوريا فكانت غائبة كالعادة، وأما لبنان فقد قال ممثله كلاما خارج الموضوع!

***

ليس مفيدا طرح الأسئلة الصعبة من نوع: هل من الضرورى تدمير ثلاث أو أربع دول عربية بذرائع طائفية بل مذهبية، يمكن احتساب «داعش» و«القيادة المؤسسة» فى القاعدة بين أعظم المستفيدين من هذا التدمير.. فى حين لن ينفع البكاء أو التباكى على هذه الدول المعرّضة الآن لخطر التمزق والغرق فى بحور من دماء أهلها، يستوى فى ذلك السنة والشيعة، إذ إن الضحايا سيظلون ضحايا، على اختلاف مذاهبهم، أما الدول فإلى الخراب.. ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، فى هذه اللحظة، أن نتخيل عودة العراق وسوريا واليمن (وليبيا فى الجهة الأخرى من الخريطة) إلى أوضاع تماثل ما كانت عليه قبل هذه الفتنة الكبرى التى يتوزع المسؤولية عنها قادة هذه المرحلة من التاريخ العربى، الأقوى أى الأغنى، من بين الذين يحكمون بالحرب التى جوهرها الفتنة.

وقديما قيل: الفتنة نائمة لعن الله مَن أيقظها!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved