«ديستوبيا» المثقف الفلسطينى

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأحد 6 مايو 2018 - 10:10 م بتوقيت القاهرة

قيل ما قيل فى التحضير لعقد المجلس الوطنى الفلسطينى، وكذلك فى التعليق على مخرجاته. الرئيس محمود عباس قال كلمته، وكذلك الذين يستعدون لدخول المجلس، وأولئك الذين يغادرونه، والذين يقاطعونه أو يشاركون فيه.. والشعب يتابع بلامبالاة.

لم يكن فى ذلك ما يبدو مفاجئا أو غير متوقع. ما يهمنا هو موقف المثقفين الذين استبقوا اجتماعات المجلس بـ «بيان سياسى إلى الرأى العام الفلسطينى»، حمل تواقيع عشرات منهم، ودعا إلى إنشاء منبر يعبر عن «حقوق الشعب الفلسطينى وتطلعات غالبيته»، ولاحقا انتقادات المثقفين، التى أخذت على الرئيس محمود عباس إغفاله فى خطابه أمام المجلس دورهم، وصيغ نتاجاتهم المختلفة فى المسيرة الوطنية، حاضرا وماضيا.

ما يتطلع إليه المثقفون طبيعيا ومنطقيا، وهو ما تتطلع إليه الغالبية، يطالبون بخطوات إجرائية لصوغ الرؤى والخيارات الوطنية من أجل إعادة الفاعلية إلى المؤسسات الفلسطينية، من خلال «خيارات كفاحية جديدة ومغايرة، تتأسس على الواقعية والعقلانية، والتمسك بقيم الحرية والحقيقة والعدالة، وتوازن بين الواقع والطموح والإمكان والرغبات، والعاملين الداخلى والخارجى، من دون أن يجحف أحدهما بالآخر».

هذه المطالب والاشتراطات تبيان وإفصاح عن النواقص فى المشهد السياسى الفلسطينى. الأجواء المواكبة لاجتماع المجلس الوطنى فضحت المآخذ على أداء السلطة، ومفاعيل الانقسام، وغياب الاستراتيجية الوطنية الجامعة، وبروز المثالب المجتمعية من العشائرية إلى الجهوية، فماذا لو أضيفت إلى هذا الواقع معطيات واقعية أخرى، أولها الاحتلال وآلياته المدمرة، ثم الوضع الاجتماعى ــ الاقتصادى فى علاقته بالجهات المانحة، وبتنسيق مع شروط الاحتلال، وكل هذا فى حاضنة إقليمية أقل ما توصف به أنها متهالكة؟

ما يقلق المثقفون الفلسطينيون سيفهم، فى بعض جوانبه، بما يواجهه المثقف الغربى، أى فى سياق أزمة الـ «يوتوبيا». المفكر الغربى يرى الآن أن الـ «يوتوبيا» هى القناع الذى تتخفى وراءه الـ «ديستوبيا» بما هى وصف لاغتراب المثقف فى حالة سياسية لا يجد نفسه مؤثرا فيها، فى ظل هيمنة مطلقة للدولة، شمولية كانت أو فردية، فالمثقف الأوروبى يعانى عزلة عن السياسة، وانهيارا تدريجيا لمفهوم السيرورة الديمقراطية وعلاقة البرلمانات بالدولة التى ابتعدت من الرأى العام وممثليه، وانصاعت لخدمة متطلبات الليبرالية الاقتصادية المعولمة وحكومتها الخفية حيث لا مرجعية تشريعية.

فلسطينيا، مثقف السلطة يدرج فى تصنيف التكنوقراط، وهذا ليس مأخذا إلا فى كونه مقيدا بقيود الدولة، مثل أى تكنوقراط فى العالم. فى الحالة الفلسطينية هو أيضا مكبل بالقيود التى يفرضها الاحتلال على عمل السلطة، وبمخرجات التفاوض. لا ننسى أن إنشاء السلطة استدعى دمج العديد من المثقفين فى دوائرها وأجهزتها، خصوصا السلك الدبلوماسى ولجان المفاوضات والإعلام. المثقف المستقل، وجد نفسه أمام إغواءات الإغداق المالى من المؤسسات الدولية الداعمة للسلطة، خصوصا المنظمات غير الحكومية. وبسبب ذلك، انتشرت بالمئات مراكز ثقافية ملتزمة شروط الجهات الداعمة، التى يعلم الجميع أنها تنسق مع الاحتلال الإسرائيلى. وهذه المراكز لم تنجح فى تأسيس حراك ثقافى وازن، رغم التماعات إبداعية فردية هنا أو هناك. ومنذ عام تقريبا، تعانى هذه المراكز شح الموارد، وكثير منها علق أعماله.

لم يعد للمثقف الطليعى ذلك الدور الفكرى المباشر والمؤثر، وانتهت صوره إلى الذكرى والتعظيم، من غسان كنفانى، إلى كمال ناصر ومعين بسيسو وأبو سلمى وماجد أبو شرار وناجى العلى ومحمود درويش وآخرين... ولكن فى غلبة «السياسى» على الثقافى، بدءا من الخروج من بيروت، وإقامة السلطة الوطنية، وتحول السياسة إلى اتصالات دولية وإقليمية، تطبخ فى أروقة المخابرات والأمن وتمرر بالهواتف والوفود، أصبح رجل الأمن فى كامل الصورة، وصار المثقف فائضا عن الحاجة، لا يملك سوى الأمل فى واقع ينفيه.

سيرة مؤلمة وتغريبة محزنة للمثقف الذى عاش فى زمن الثورة أحلام «يوتوبيا» لم تتحقق، ويعيش الآن وقائع «ديستوبيا» لا ترفق به ولا بغيره.

فاتنة الدجانى
الحياة ــ لندن

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved