ربما اقـترب الفـرج

تميم البرغوثى
تميم البرغوثى

آخر تحديث: الثلاثاء 6 يوليه 2010 - 9:55 ص بتوقيت القاهرة

 سألنى بعض الصحفيين منذ أيام عما يخلفه عندى عملى بواشنطن من انطباعات عن الولايات المتحدة، فوجدتنى أجيب بأن انطباعى عنها هو أنها أضعف مما يظن أكثر الناس فى بلادنا، وأنها لا تسيطر على أقدارنا ولا تملك أمورنا كما تحب أن توحى لنا أو يوحى لنا حلفاؤها. وإن ضعف الولايات المتحدة هذا ليس بدعا فى التاريخ، فكل إمبراطورية تبالغ فى تمددها واتساعها يستنزفها تضخمها، ويهزمها انتصارها. وقد كان الرئيس السابق للولايات المتحدة أعلن حربا على الإرهاب، تحولت عمليا إلى بالوعة للمال والرجال ترسل بهم الإدارة الأمريكية إلى ساحات قتال معلنة وسرية تمتد بعرض آسيا وشمال أفريقيا.

واليوم بعد إقالة قائد القوات الأمريكية فى أفغانستان وتوقيع اتفاقية تقضى بانسحاب القوات الأمريكية من العراق، بيَّن الصبح لذى عينين أن الإمبراطورية لم تنتصر على رعاة الجبال. ولا بد أن يصيب وَهَنُ السيد تابعَه فيهِن مثله، ولا بد أن يضعُف حلفاء الولايات المتحدة بضعفها، وما نراه من تقارب إيرانى ـــ عراقى، ولبنانى ـــ سورى، ومحادثات بين الحكومة الأفغانية وطالبان دليل على ذلك.

إن دخول قوة عظمى إلى إقليم ما يغيره، وخروجها منه يغيره، وهذا ما كان بدخول الولايات المتحدة إلى العراق وخروجها منه. فالإقليم كان مستقطبا بعد غزو العراق مباشرة إلى معسكرين، معتدلين وممانعين، وكان يبدو أن المعسكرين متماسكان، بل كان الظاهر للناس أن معسكر الاعتدال أقوى ظهرا، لأن ظهره الولايات المتحدة الأمريكية، وهى كانت مندفعة إلى غايتها بلا تردد، بينما كانت إيران ظهر الممانعين، وكانت تبدى ترددا بين مناوئة الولايات المتحدة فى الشام ومهادنتها فى العراق، وكان يبدو أن الولايات المتحدة تحيط إيران من الجهات الأربع، فقواتها فى أفغانستان وباكستان والعراق والخليج العربى، أما تركيا فعضو فى حلف الناتو، وبعض دول آسيا الوسطى فيها قواعد أمريكية، وروسيا منكفئة بعد اضمحلال نفوذها فى البلقان أواخر التسعينيات، ثم بعد الثورات الملونة وأثنائها فى شرق أوروبا والقوقاز وتمدد الناتو نحوهما.

أما اليوم، وبفضل المقاومة العراقية، وفشل الولايات المتحدة الأمريكية فى أفغانستان، فإن الأوضاع تكاد تنقلب رأسا على عقب. ويبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد أصبحوا هم المحاصرين فى المنطقة. فخروجهم من العراق يعنى عمليا خروج البلد من حلف المعتدلين. فلإيران علاقات مميزة مع كل من الحكومة والمعارضة فى العراق. ولا تجد المملكة العربية السعودية، الجار العظيم القدر والنفوذ، وغيرها من القلقين من هذا التمدد إلا العرب السنة لتجنيدهم ضده، ولكن المشكلة، هو أن تقوية العرب السنة تعنى تسليح قاعدة ديمغرافية هى أيضا الحاضنة لكثير من جماعات المقاومة العراقية، بالإضافة إلى جماعات أخرى سلفية لا تريد الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مساندتها بحال من الأحوال. لذلك فإن هناك قيودا على قدرة معسكر الاعتدال أن ينافس إيران على العراق.

والطريف أن الأسباب التى منعت الولايات المتحدة وبعض المعتدلين العرب من مساندة السنة العراقيين مساندة كاملة هى نفسها التى منعت الولايات المتحدة من دعم الشيعة العراقيين دعما كاملا، حيث إن منهم من كان معارضا ومقاوما ومشتبكا مع الاحتلال كذلك. والأطرف أن العلاقات الاجتماعية فى العراق ربما جعلت رجلا يعمل فى ميليشيا أو جهاز موال للولايات المتحدة، وأخوه من أمه وأبيه منضم إلى جماعة مقاومة، يستوى فى ذلك طوائف البلد جميعا. ففى كل طائفة فى العراق مسالمون ومقاومون، وهم يتبادلون الأدوار، فمن يسالم اليوم قد يعارض غدا، مما منع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها أن يذهبوا فى دعم طائفة ما إلى النهاية. لقد أدرك المحتل بديهية يعرفها الناس فى بلادنا من القدم، أنه لا توجد فى العراق، وما أدراك ما العراق، طائفة خالصة للغزاة تأمنهم ويأمنونها.

أما تركيا، فهى لا تريد من العراق أكثر من تأمين الشمال الكردى، وهو أمر تريده إيران كذلك، فلن تنافس تركيا إيران على العراق أيضا. ثم إن سوء العلاقة بين تركيا وإسرائيل يقربها من إيران ولا يبعدها. هذا يعنى عمليا أن الممانعين أصبحوا يتحكمون فى قطعة من الأرض تمتد من وسط آسيا إلى البحر المتوسط، إيران والعراق وسوريا ولبنان، وأن القوتين الكبريين إلى الشمال والجنوب من هذه الدول، تركيا والمملكة العربية السعودية لن تضغطا عليهم ضغطا يذكر لا فى العراق ولا فى الشام مقابل هدوء كل من كردستان والخليج واليمن.

ثم الأردن، وهو وإن كان محبا للسلام، بات يبتعد شيئا فشيئا عن إسرائيل، لأن هذه الأخيرة، متشجعة بلين المواقف الرسمية الفلسطينية بدأت تظهر عليها علامات الطمع فى الضفة الغربية كلها، وحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن. وقد وصل الأمر بالحكومة الإسرائيلية إلى إدراج مشروع الوطن البديل على جدول أعمال الكنيست، وإلى إصدار قرار بترحيل عشرة آلاف فلسطينى من الضفة الغربية إلى الأردن.
والوطن البديل كما يعلم القارئ هو مشروع إسرائيلى يدعو إلى أن تقوم الدولة الفلسطينية فى الأردن لا فى الضفة الغربية. وقد أصدرت جماعة من المتقاعدين العسكريين بيانا ترفض فيه مشروع الوطن البديل، وأدلى الملك عبدالله الثانى بأكثر من تصريح فى هذا الاتجاه، ثم الناطق باسم ديوانه، ثم الناطق باسم خارجيته، واستخدمت فى هذه التصريحات تعبيرات لم تسمع فى الأردن منذ زمن بعيد، كالخيار العسكرى.

إن وضـع الأردن الجغرافى والديمغرافى الذى يفرض عليه أن يكون جسرا فى حال السلم وعازلا لمنع وقوع الحروب، يفرض عليه فى حال وقعت الحرب فعلا الميل مع الجانب العربى، ذلك أن صغر حجم البلد يمنعه من أن يكون جزءا من حلف معاد لإسرائيل فى حال السلم، لأنه يكون عرضة أكثر من غيره للعدوان، وستفضل إسرائيل خوض أى حرب على الجبهة الشرقية فى أراضى الأردن لا فلسطين، إلا أن الحرب لو قامت فعلا، فإن الأردن لا يملك إلا أن يكون مع الأطراف العربية لأن أولوية إسرائيل تكون فى حماية نفسها لا فى حمايته، وهى ستتخلى عنه أثناء الحرب أو بعدها، وعليه، ففى عام سبعة وستين، وحتى فى عام واحد وتسعين، وقف الأردن مع الجانب المعادى للولايات المتحدة وإسرائيل على الرغم من سياسته المحبة للسلام، وكان موقفه فى الحالتين ضرورة بقاء.

إذن، فالحلف الذى كان مكونا من إيران وسوريا، أصبح مرشحا لضم العراق ولبنان، ولا يعارضه الأردن والسعودية وتركيا بنفس القدر الذى كانت تعارضه به قبل خمسة أعوام أو ستة.

خسرت الولايات المتحدة المشرق كله، وخسرته وهى تحتله، بل ربما خسرته لأنها تحتله. وحتى لو لم يدم عجز الولايات المتحدة هذا، فقد ظهر لنا أنه ممكن، ممكن لفقراء المدن ورعاة الجبال أن يمنعوا أكبر إمبراطورية فى التاريخ من أن تحصل على ما تريد. إن المعرفة بذلك فى حد ذاتها، عنصر من عناصر القوة. إن الدول العظمى تعيش على سمعتها وخوف الناس منها أكثر من قدراتها المادية على القتل.

فالإمبراطور حين يقتل إنما يقصد الإخافة أكثر من الإبادة، فإن تعداها إلى أن يظن ضحاياه أنهم يبادون فإنهم لا يخافونه بعد، وحين يكفون عن خوفهم لا يعود الإمبراطور إمبراطورا بل رجلا من الناس. إن أكثر من نصف قوة الغزاة تأتى من خوفنا منهم. عسى أن يسمع المتنفذون فى مصر ذلك، فإنه لم يبق من كبيرات دول المشرق غيرها، فإن قررت مواجهة إسرائيل أيضا فقد اقترب الفرج.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved