«سلطة» الطفل الغريق

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأحد 6 سبتمبر 2015 - 6:05 ص بتوقيت القاهرة

هو الطفل مرة أخرى يدفع ثمن «لعبة» الكبار. أقول لعبة وليس حربا، لأن التاريخ علمنا أن الحروب تبدأ ثم تنتهى، لكن الحرب فى عالمنا العربى لا تعرف لها نهاية. وعلى كثرة ما اعتادت أعيننا مشاهد المجازر والدماء، لم تعد «الصورة» تؤثر فينا. العادة أسقطت النظريات. الصورة لم تعد تُمارس «سلطة» الفعل، ولا تحض على رد الفعل، على ما يقول الباحثون ممن اشتغلوا على مفهوم الصورة والميديا.

لكن الشاشات أرادت أن تضعنا أمام تحدٍ جديد، أو أن تختبر ما تبقى فينا من إنسانية. فلم تعرض صور أشلاء «مستهلكة»، ولا دماء سائلة، إنما صورة طفل «نائم» على شاطئ رملى. يرتدى بلوزة حمراء وشورت أزرق وصندال رماديا، كأنه ذاهب فى نزهة.

ينام الصغير بوضعية الساجد، ملتحفا السماء بامتدادها اللانهائى. لوهلة، يظن المشاهد أن المنقذين أسعفوه وتركوه يغفو قليلا لعله يرتاح من عناء سفر ثم غرق فى بحر مجهول.

صورة الطفل السورى التى هزت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى، عربيا وعالميا، هى الأعنف بين صور الموت الكثيرة. نقول هذا ونحن ندرك فى سرنا، إن الواقع العربى لا يبخل علينا بمفاجآته الكثيرة، فكلما قلنا إن القسوة بلغت ذروتها فى هذا المشهد أو ذاك، وصلتنا صور أحدث وأقسى وأعنف. ونستدرك هنا مقولة بديعة لباشلار فى كتابه «الأرض وأحلام الغفوة»: «الموت هو أولا صورة، وسيظل دوما كذلك». ولو أردنا البحث فى مشهدية هذه الصورة التى غزت شاشات التلفزيون والمواقع أول من أمس، لوجدنا أن «قسوتها» تكمن فى هدوئها. لا دماء تُلطخ الجسد الصغير، ولا كدمات تشوه الوجه الملائكى، بل إن وجهه لا يظهر. وجهه مدفون فى الرمل أو الموج، كأنه أراد، وهو يموت، أن يخفى ملامحه عن العالم، لكى يكون «طفلا» ــ طفلى أو طفلك ــ بدلا من أن يكون مجرد صبى سورى «غريب».

الغريق الصغير أعاد للصورة سلطتها الفعلية، ومن يراقب ردود فعل المشاهدين على الفيديو الذى تناقلته كل القنوات والمواقع يدرك جيدا أن الذات الإنسانية سقطت أمام مشهد الموت. وهذا ما يتقاطع مع مقولة الفيلسوف الفرنسى ريجيس دوبريه فى كتابه «حياة الصورة وموتها»: «كلما أمحى الموت من الحياة الاجتماعية غدت الصورة أقل حيوية، وأصبحت معها حاجتنا للصور أقل مصيرية».

غريق تركيا الصغير ليس الطفل الأول الذى يموت «عبثا» فى بلادنا، ولن يكون الأخير، لكن صورته صامتا، طريح الماء والرمل، ستظل تنكأ جرحا ما فى قلوبنا كلما شاهدنا طفلا يلهو على الشاطئ.

 

الحياة ــ لندن
مايا الحاج

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved