حتى الهندسة لا تخدع التاريخ

وائل زكى
وائل زكى

آخر تحديث: الإثنين 6 نوفمبر 2017 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

لكل مخلوق أو منتج عمر افتراضى، سواء حى يهرم أو سائل يفسد أو منسوج يبلى أو ماكينة تخرب أو مبنى يتداعى، وتتدخل الهندسة لتعوض الحى وتعالج السائل وترفى المنسوج وتصون الماكينة وترمم المبنى، كما نسمع عن الهندسة الوراثية والهندسة الكيميائية وهندسة النسيج وهندسة الذكاء الاصطناعى والهندسة القيمية، تحاول كل هندسة منها أن تضفى قيما نفعية واقتصادية فى مجالها، وهنا أتحدث عن الهندسة كطبيعة تفكير، نسمع عن الفكر الهندسى والحس الهندسى، حتى الاقتصاد جانب كبير منه هندسة، يقول لقمان لولده: «واقصد فى مشيك» أى اجعل لمشيك قصدا وغرضا، فكلما أضفت لأى شىء قدرة على تحقيق قصد أو غرض مضاف زاد النفع منه وزاد اقتصاده، وتعددت فوائده، ومن ثم يمكنك التفكير فى الاستفادة من أى شىء حولك بعدة أوجه تضيف إلى منافعه منافع، هذا تفكير اقتصادى ولكن آلياته تدور فى منهجية هندسية.

الفكرة، تلك الومضة من الفكر، تبرق فى الذهن أو تجول فى الخاطر، ترهق عقل المفكر حتى يمسك بأول خيطها الذى يقوده لتنفيذها، سواء كانت آلية أو فكرية حتى يستطيع أخيرا أن ينتج لها نموذجا يعمل أو نظرية تختبر، تلك العملية تمثل لمحترفيها صناعة، لها منهجية وبناء يمكن التدريب عليه حتى يترتب التفكير وتقل الخطوات للوصول لنتائجها، وبمعنى آخر يصبح التفكير نفسه عملية يجب أن تصير أكثر اقتصادية، من هذه النقطة نتساءل، تفكيرنا كعملية إلى أى مدى تتصف بالاقتصادية، لنصل إلى تحقيق أهدافنا بأقل الخطوات وبشكل مباشر، أى كيف نحقق «واقصد فى فكرك»؟، أى كيف تجعل لتفكيرك قصدا وغرضا، فى حياتك، فى تعاملاتك فى وقتك والوسائل المتاحة حولك؟
عقلك تلك الآلة الفكرية العظيمة المبهرة فى إمكاناتها، احترمها خالقها تبارك وتعالى حتى أنه مع قدرته على أن يقول للشىء كن فيكون، إلا أنه سبحانه خلق السماوات والأرض فى ستة أيام، ذلك البناء الضخم المرعب فى عمقه الدقيق فى هندسته، مدعوون لتدبره كبناء وتدبر حكمة خلقه فى ستة أيام، تلك رسالة بعث بها بديع السماوات والأرض مفادها إن أردت الخلود فى صنعك عليك بالاتقان فى صناعته والتمهل فى إنشائه وتركيبه حتى يتزن بناؤه وتتعاضد أجزاؤه وتقوى أواصره، فهل كان ذلك نهج الإنسانية وسُنتها على مر التاريخ؟

***

ما من عمل كتب له الخلود ولو لحين من الدهر، إلا واستغرق ما يستحقه من الزمن فى تنفيذه وإتقانه، خوفو ذلك الملك الذى بنى الهرم الأكبر، استغرق فى بنائه نحو عشرين سنة، وكان المشروع القومى فى عهده، تمثلت فيه العبقرية الجغرافية والإبهار الفلكى والإعجاز الهندسى فى عصره، هذا إتقان فائق ضمن بدراسته المهندس حم إيونو تحقيق الخلود المراد لمليكه، لم يكن خوفو يضمن حياته حتى تمام بناء هرمه ومدفنه، بل يقال إنه مات قبل تمام بناء الهرم، خوفو أراد عملا خالدا، ومن ثم فإن عدد سنين عمره ليس لها قيمة مقارنة بزمن خلوده، لم يكن خوفو يبيع لشعبه هرما، بل كان يصنع رمزا، كان يصنع لقيمة ذاته الخلود.

كوبرى أبوالعلا، الذى صممه الأمريكى وليام دونالد شيرزر، حيث وقع اختيار لجنة تحكيم المناقصات على تصميمه عام 1908، وقامت شركته بتركيب الأجزاء المتحركة فى الكوبرى، ونفذت عوارضه الفولاذية شركة «فيف ليل» الفرنسية واستغرق بناؤه ثلاثة أعوام ونصف العام، وسط مياه ذات تيارات قوية ودوامات عملاقة خاصة أثناء الفيضان، تم افتتاح الكوبرى فى أغسطس 1912، وتولى اسماعيل باشا سرى وزير الأشغال العامة حينها افتتاحه رسميا، ولكن الكوبرى لم ينفتح وكانت فضيحة هندسية إذ إن السبب راجع لاعتبارات تصميمية، والبعض شكك فى فنيات التنفيذ والتشغيل بينما تؤكد الوثائق أن الكهرباء الكافية لتشغيل الرافعات ووفرتها شركة الترام والتى احتفلت بعد شهر من تلك الواقعة بافتتاح خط 3 العتبة الخضراء الهرم، وأكد مسئولوها إمداد الكوبرى بكامل الطاقة المطلوبة لفتحه، كان الخديوى خارج البلاد والحكومة كلها فى إجازة الصيف، وتناثرت هنا وهناك أخبار عن مدى شغف بعض رجال الأعمال وأصحاب فندق ونادٍ رياضى صار مركز شباب فيما بعد لسرعة فتح الكوبرى الذى يربط بين بولاق أبوالعلا والزمالك، والأمر كله دُوِّن فى التاريخ وألصق بالمهندس جوستاف إيفل الفرنسى بل وأشيع انتحاره بسبب عدم فتح الكوبرى، فى حين توفى إيفل هادئا فى منزله عن عمر يناهز الواحد والتسعين عاما.

***

بالطبع سيكون إنشاء هرم اليوم مقترحا سخيفا إذ إن أية شركة أو عدة شركات تستطيع بناؤه فى عام واحد، وقد تتسابق الشركات فى سرعة الإنجاز، ولكن الفارق بين تنفيذ الهرم وتنفيذ كوبرى أبوالعلا كان الاتقان فى التصميم، الاتقان النابع عن إيمان بهدف العمل ومبتغاه استدامة المنتج، الإتقان الذى يحركه حماس المبدع وحكمة المسئول وخبرة المنفذ، لذلك فإن أردت أن تعمل عملا يخلدك عليك بإنجاز عمل متقن بكل معايير العصر الحالى، ستجد أن أى إبداع يتلاءم مع العصر الحالى وراءه سنوات طويلة من التخطيط المرن مع المستجدات ثم التصميم المبدع ثم التنفيذ الماهر بتكنولوجيا العصر، أما العلاقة بين التكلفة والزمن والجودة فهى علاقة ظاهرها الإدارة والاقتصاد وباطنها الهندسة، يمكن تقليل زمن الإنجاز بزيادة التكلفة مع ثبات مفترض للجودة، ويمكن تمديد الزمن لتوفير النفقات مع ثبات مفترض للجودة، لو اختلت الجودة فى أى من الحالتين نمَّ ذلك عن إهدار مال، الجودة هى ناتج الإتقان يحكمهما أصول وقواعد هندسية لابد أن تحيد ما بين الإدارة والاقتصاد، لابد أن تثبت ما بين التكلفة والزمن، ومهما تلاعبت الإدارة وتحاذق الاقتصاد على حساب الأصول والقواعد الهندسية، ستفضحهما الهندسة إن عاجلا أو آجلا، فالهندسة لم تستطع أن تخدع التاريخ لا فى العمر الافتراضى ولا فى استدامة المنتج وخلوده.

كان أستاذى دائم التأخر فى تسليم أعماله، التى تدرسها جامعات فى أنحاء شتى، وكان عادة ما يطبق علينا غرامات تأخير وليس هناك من ضرر مباشر فقد كانت أعمال فكرية وتخطيطية، ولكنى كنت أتعجله للالتزام بمواعيد التسليم مهما كانت مبررات التأخر فنية وعلينا ضغط أوقاتنا بالعمل والسهر فقال لى، استفاقة عقلك عند التفكير لكى تبدع فى عملك سيضعفها سهرك، واتقانك فى العمل والتدبير سيضعفه عدم تركيزك، ومن يفخر بعملك بعدك لن يهتم فى أى مدة أنجزت، ولكنه سيهتم بأن هذا العمل هو أنت من قام به.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved