القطيعة مع الماضى

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 6 ديسمبر 2014 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

لا قداسة لثورة أيا كانت إنجازاتها وتضحياتها، فالقداسة ضد التاريخ من حيث إنها عمل إنسانى وضد الديمقراطية من حيث الحق فى نقدها.

غير أن الاستباحة قضية أخرى تفضى إلى الانقلاب على الثورة وإهدار أهدافها وتقويض الديمقراطية نفسها.

ما بين القداسة المستحيلة والاستباحة الماثلة هناك حرب حقيقية على المستقبل. كان كل شىء مقصودا فى الحملة على «يناير» بلغة منفلتة تسخر من تضحياتها وتنتهك أية قيمة سياسية وأخلاقية فى البلد.

لا احترام للدستور والقانون ولا مساءلة من جهة تحقيق أو وقفة من سلطة.

وبدأت الأسئلة تطارد النظام الجديد عن حقيقته، ولم يكن هناك شىء خافٍ فى اللعبة كلها.

فالذين يقفون وراء الحملة ينتسبون إلى «رأسمالية مبارك» ولهم ثأر مع «يناير».

يتصورون أن الوقت قد حان لتصفية الحسابات وغسل سمعة نظام أسقطه شعبه توطئة لعقد قران جديد بين السلطة والثروة.

بصراحة كاملة فإن الحملة على «يناير» لا تدخل من باب الديمقراطية بقدر ما تدخل من باب الفساد.

بنفس درجة الصراحة فإنها استهدفت أن يكون الحاضر ظلا للماضى و«السيسى» امتدادا لـ«مبارك».

وهذا أكثر ما ضايق الرئيس فيما هو معلن وغير معلن من حوارات ومشاورات بعد الحكم بتبرئة «مبارك» ورجاله فيما يطلق عليها «محاكمة القرن».

ترددت فى القاعات الرئاسية جمل كاشفة أهمها أنه بحاجة أن يقول من هو وأين يقف، وهذا اعتراف متأخر لكنه ضرورى بالأثر الفادح لغياب لغة السياسة ووسائلها، وأوضحها أنه لا يمكن أن يكون منتميا لنظام يزدريه ويرى أنه «كان يستحق أن يسقط قبل عشرين عاما»، وهذا تأكيد لازم يستدعى سياسات تعلن القطيعة مع الماضى.

كان متحفظا فى البداية على فكرة إصدار بيان سياسى عن رئاسة الجمهورية يؤكد التزاماته الرئيسية بشرعية «يناير» و«يونيو» وأنه لا عودة للوراء خشية أن يؤول توقيته على أنه تعليق على أحكام القضاء، غير أنه فى اليوم التالى أصدر بيانا يمكن وصفه بـ«الحد الأدنى الضرورى»، لا هو استجاب كاملا لصيحات الغضب فى محيط ميدان التحرير ولا هو تجاهلها وغض البصر عن رسائلها كأنها لم تصل إليه.

اقترب بحذر من الملف المشتعل ولم يكن ذلك كافيا للإجابة على التساؤلات الكبرى عن طبيعة النظام الذى يترأسه، وهو نظام تأسس على شرعية ثورتين.

فى قضايا الشرعية يصعب على أى نظام ألا يحسم أمره وإلا فإن العواقب وخيمة.

هو نفسه أشار إلى هذا المعنى.

يدرك أن طلب العودة إلى الماضى بسياساته ووجوهه مشروع اضطراب سياسى لا تحتمله مصر يحطم أية شرعية ويزكى كل عنف.

كانت المعلومات التى توافرت أمامه فى أعقاب الأحكام مباشرة أن موجات الغضب امتدت إلى قطاعات واسعة من الرأى العام ضحت بفداحة لأربع سنوات كاملة بحثا عن أمل جديد فى حياة أفضل فإذا بها ترى ما ثارت عليه يطل عليها من جديد.

تبدت النذر أمامه فى تقارير ومعلومات بعضها توقع أن تتمدد التظاهرات الغاضبة وأن تختلط الأوراق وتستفيد جماعة الإخوان المسلمين من أية تصدعات فى الوضع الداخلى ووصل القلق إلى مؤسسات القوة خشية أن تجد نفسها فى صدام قد تضطر فيه إلى مالا تريد.

وترددت على نطاق واسع عبارة: «لا نريد صداما لكننا لن نسمح بأية خروقات من أية جهة كانت».

غير أنه تبدت أمامه فى الوقت نفسه تقديرات أخرى حاولت أن تهون من المدى الذى يمكن أن تصل إليه التظاهرات الغاضبة التى «قد لا تمتد لأكثر من أسبوعين أو ثلاثة».

لم يكن مقتنعا بصحة التقديرات الأخيرة، فالقضية لا تلخصها مظاهرة هنا أو هناك بقدر ما تشير إلى فجوات ثقة تتسع مع الشباب الغاضب، و«الشباب فكرة» على ما استمع فى بعض مشاوراته قبل أن يبدأ حواراته مع قطاعات من الأجيال الجديدة من المتوقع بحسب معلومات أولية أن تعقبها حوارات أخرى على المستوى الثنائى مع عدد من الرموز السياسية المصرية البارزة.

النزوع إلى الحوار تطور إيجابى لكنه محدود.

إيجابى بمعنى أن يقترب بقدر ما هو ممكن من النبض العام فى الشارع واعتماد الوسائل السياسية فى جسر أية هوة أو فجوة، وهو ما يحتاجه الرئيس.

ومحدود بمعنى أن الحوار وحده لا يؤسس لأوضاع جديدة دون أن ترافقه سياسات مختلفة.

هذه هى المعضلة الكبرى أمام نظام لم يعلن عن نفسه حتى الآن.

فى غياب رؤية تعلن القطيعة مع الماضى يفلت زمام الدولة وتتصارع الأجهزة الأمنية دون أن تكون هناك سقوف أو حدود.

تداخلت فى الحملة على «يناير» حركة بعض مصالح المال وانفلاتات بعض سلطات الأمن. وهذا وضع لا يمكن قبوله فى أية دولة محترمة.

بحسب معلومات لا تخفى حقائقها على الرئيس فإن أطرافا أمنية حرضت عليه بشأن قانون يجرم «الإساء إلى الثورة»، ولهذا حسابه.

ليست هناك مشكلة فى الاعتراض على فكرة القانون، وفى بعض الاعتراضات أسباب وجيهة تتخوف من استخدامه فى التضييق على الحقوق والحريات غير أن ليس من حق التحالف شبه المعلن بين أطراف فى أجهزة الأمن وأطراف أخرى تنتسب إلى مراكز المال الحديث عن حريات عامة قد تهدر بينما القوانين والأخلاقيات يدوسونها بالأقدام.

المثير فى مشروع القانون أنه يواجه اعتراضا من طرفين متناقضين، أحدهما لا يريده حتى ينفسح الوقت أمامه لما يتوهمه من عودة الماضى لسابق عهده، وثانيهما يخشى من آثاره وفى ذاكرته قوانين أخرى كـ«حماية القيم من العيب» فى عهد «أنور السادات» و«حماية الثورة» فى سنة «محمد مرسى».

من حيث المبدأ العام فالثورات لا تحصنها القوانين وحدها.

وقد يستخدم القانون فعلا لغير أهدافه المعلنة.

هناك الآن خياران لا ثالث لهما.

الأول، أن تتكفل السياسات بردم أية فجوات مع الأجيال الجديدة وإعلان الحرب على الفساد وملاحقة أية انتهاكات فاضحة عبر شاشات الفضائيات وفق القوانين الحالية.

هنا لا حاجة لقانون يجرم أية إساءة لثورتى «يناير» و«يونيو».

والثانى، أن يصدر القانون بشروط أساسية يستدعى غيابها اعتباره عدوانا على الدستور.

لا تحصين لسياسات أو إجراءات أو رجال باسم الثورة ولا حجب لأية انتقادات أيا كانت حدتها، فهذه حقوق ثابتة يضمنها الدستور.

المعنى أن تنضبط صياغة القانون على النص الدستورى وأن يقتصر تجريم الإساءة للثورتين من كونهما فعلا شعبيا وتاريخيا لا أكثر ولا أقل.

بمعنى آخر تجريم «الشتم» لا «النقد».

أما الحرب على الفساد فقضيتها تستدعى حسما فى الملف لا على هوامشه.

باليقين فهو الملف الأصعب فى القطيعة مع الماضى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved