«روما».. نساء عظيمات ورجال جبناء!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 6 ديسمبر 2018 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

يمكن أن تفهم الفيلم المكسيكى «روما» الذى كتبه وقام بتصويره واشترك فى مونتاجه وأخرجه ألفونسو كوران، على أكثر من مستوى، يمكن أن تراه كدراسة للعلاقات الاجتماعية بين خادمة وأسرة من الطبقة الوسطى فى سنوات السبعينيات المضطربة سياسيا واقتصاديا فى المكسيك، ويمكن أن تراه من زاوية نسائية خالصة:
رجال هاربون وغائبون، ونساء فى قمة الشجاعة والمسئولية، تتعاون الخادمة «كليو» مع ربة المنزل «صوفيا»، فى مواجهة خذلان الرجال، وشقاوة الأبناء، تنمحى الفوارق الطبقية أمام عاطفة وعطاء المرأة، بينما ينفرد الرجال بالجبن والأنانية!
من زاويةٍ ثالثة، فإن الفيلم الذى يحمل اسم أحد أحياء المكسيك، وليس اسم العاصمة الإيطالية كما قد يتبادر فى الأذهان، يمكن أن تراه كمحاولة للتحرر على مستويات مختلفة:
صوفيا ربة المنزل التى تتحرر بالاعتماد على نفسها، لتعمل فى دارٍ للنشر، بعد أن كانت تقنع بعمل لا يدر عليها إلا القليلُ، كمدرسة لمادةٍ لا تحبها، وكليو الخادمة تتحرر أخيرا من علاقتها بالشاب فيرمين الذى خدعها، وجعلها تنجب طفلة غير شرعية، وهناك مستوى الوطن نفسه الذى نراه فى حالة انتفاضاتٍ طلابية، تقمعها السلطاتُ بالقوة، وليس غريبا أن ينضم فيرمين ــ الذى هرب من كليو بعد حملها ــ إلى العصابات التى أرسلتها الحكومة القمعية لقتل الطلاب فى المظاهرات، فكأن الرجل الذى ظلم وخدع كليو، هو الذى سيقتل طلاب الحرية.
لدينا فتاتان: كليو الخادمة والمربية، وأديلا الطباخة، تعملان فى بيت يضم أربعة أولاد، وجدتهم، والأم صوفيا، أما الأب/ الرجل فهو يأتى لأيام، ثم يترك البيت، نعرف فيما بعد أنه هرب مع عشيقته، وأنه لم يعد يرسل أموالا، تتوازى نذالة الأب مع نذالة فيرمين، صديق كليو، الذى يتعلم الفنون القتالية، ولا يرى فى كليو سوى خادمة، لذلك يتركها عندما يعرف بحملها، صوفيا هى التى ستنقذ كليو، ستأخذها إلى الطبيبة، وستوفر لها الرعاية حتى تلد، ولكن الجنين يصل ميتا، مثل أشياء كثيرة سحقها الرجال.
تبدو خطوط الحكاية تقليدية، ولكن كوران يضعنا مباشرة فى قلب المكان، وفى وسط العائلة، حركة الكاميرا الغالبة بانورامية من اليمين إلى اليسار، أو بالعكس، وأحيانا يقوم بتصوير المشهد فى لقطة واحدة ممتدة، مثل المشهد البديع لإنقاذ كليو لطفلين من الغرق، هى إذن لوحات تمنح الفيلم مسحة تسجيلية واقعية تماما، مع رموز متناثرة متكررة، فالطائرة تنعكس على بلاط المنزل المبتل بالماء، ثم تحلق فى السماء فى نهاية الفيلم، والطائرات الحربية تظهر فى فيلم تشاهده كليو وفيرمين، ونشاهد فى أحد الاحتفالات شخصا يطلقونه فى الهواء، تبدو هذه الإشارات تعبيرا عن حرية مفقودة.
يستغل كوران بصريا تكرار عملية تنظيف الأرضية، والماء الممتزج بالصابون، وفضلات الكلب على الأرض، والدُمى المحطمة، وضخامة سيارة زوج صوفيا، التى تكاد تترجم غروره ولا مبالاته فى سبيل تحقيق ما يريد، لكى تكتسب دلالات أعمق، إلى درجة أنك يمكن أن تفهم رحلة كليو وصوفيا باعتبارها رحلة اغتسال بعد معاناة، وباعتبارها محاولات مستمرة للتخلص من الفضلات، التى تفسد حياتهما، وباعتبارها محاولة لرفض أن يصبحن مجرد دُمَى كسرها الرجال.
لا يمكن بالمقابل أن تمنع نفسك من التفكير فى صورة نساء الفيلم: صوفيا، وكليو، والجدة، وأم كليو، التى نسمع أنهم نزعوا أرضها، ومع ذلك ما زالت تعيش فى الريف، بل يمكن أن تضيف إلى الصورة طبيبة كليو التى ترعى حملها وولادتها، كليو صاحبة الإرادة الخارقة التى تنجح فى الوقوف على قدم واحدة، بينما يفشل الرياضيون!
المرأة فى الفيلم تصنع الحياة، وتنقذ المستقبل، متمثلا فى الأطفال، وهى الأكثر قدرة على التخلص من الفكرة الطبقية. ربما نأخذ على الفيلم أنه لم يوضح ولو فى جملة حوار معنى كلمة «روما» فى سياق أحداثه، وكان ممكنا أيضا أن يشرح خلفية تلك الاضطرابات الطلابية فى المكسيك، ولكننا، على الرغم من هذه الملاحظات، أمام فيلم كبير من أفضل ما شاهدتُ فى مهرجان القاهرة السينمائى، ومن أفضل أفلام 2018.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved