الدولة العجوزة .. والدولة الشابة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأربعاء 7 يناير 2015 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

تعبير «دولة العواجيز» صكه الشاعر الكبير «عبدالرحمن الأبنودى» فى ذروة ثورة «يناير» قبل سقوط «مبارك» مباشرة.

بعدد السنين فهو أبعد من أن يحسب على أجيال الشباب، وبغضب الثورة فهو ضد «عواجيز شداد مسعورين أكلوا بلدنا أكل».

فى صرخته «شوف مصر تحت الشمس.. آن الأوان ترحلى يا دولة العواجيز» إيمان بالمستقبل وأجياله الجديدة «مش دول شبابنا اللى قالوا كرهوا أوطانهم» «هما اللى قاموا النهارده يشعلوا الثورة» دون قطيعة مع الأجيال التى سبقت وأعطت وضحت فى سبيل المعانى نفسها «يرجعلها صوتها.. مصر تعود ملامحها» «تاخد مكانها القديم والكون يصالحها».

لم يكن قصده أن يصفى أية حسابات مع كل من تقدم فى العمر أو أن يدعو إلى «قتل كل أب» وإلغاء أى تاريخ.

يضايقه أن يستخدم تعبيره لغير أسبابه فى النيل من أية قيمة ثقافية وأدبية أو صحفية وسياسية لمجرد تقدمها فى العمر.

فى الاستخدام «تفكير عجوز» يتصور أن إزاحتها من الحياة يفتح المجال لآخرين فى الصعود دون استحقاق. بمعنى أوضح فإن التفكير العجوز صلب دولة العواجيز.

لم تكن دولة «مبارك» عجوزة بأعمار مسئوليها الكبار الذين بقى بعضهم على مقاعد السلطة لما يقارب الربع قرن بقدر ما كانت هرمة فى أفكارها وخيالها ووسائلها وخياراتها، تعاكس مجتمعها وتناقض احتياجاته منعزلة عن حقائقه فى منتجعات الأثرياء.

«قول إنت مين للى باعوا حلمنا وباعوك.. أهانوك وذلوك ولعبوا قمار بأحلامك».

أسباب الثورة فى السياسات لا على الأعمار، فلو كان نظام «مبارك» كله من الشباب فإن السقوط كان محتما.

تذكر أن «لجنة السياسات» التى ترأسها نجله الأصغر «جمال» مالت أغلبية أعمارها إلى جيل الوسط، وقد روج له الخطاب الإعلامى الرسمى باعتباره ممثلا للشباب ومتبنيا لـ«الفكر الجديد»، ومع ذلك كان صعوده فى بنية السلطة من الأسباب الجوهرية لسقوط النظام.

كل ما هو منتحل أو مصنطع لا يصمد لاختبارات الزمن، فلا الحزب الوطنى استطاع أن يصمد على أى نحو أو بأية صورة أمام تظاهرات الغضب فى يناير، رغم أن عضويته الرسمية كادت أن تصل إلى الثلاثة ملايين، ولا لجنة السياسات أقنعت أحدا بأنها تمثل التجديد والشباب رغم كل الدعايات، ومن المفارقات أن الشباب هم من تصدروا مشاهد الغضب التى أسقطت اللعبة كلها.

تيبس الدول من تصلب شرايينها السياسية وانسداد أية قنوات أمام أى جديد.

الثورات تقاس بإنجازاتها قبل وبعد أى شىء آخر.

لم يضح أحد من أجل دخول شبانا بعينهم إلى الحكومة أو الدفع بأعداد أخرى إلى مقاعد البرلمان، فهذا من مؤشرات التغيير وليس التغيير نفسه.

السياسات قبل الأشخاص والالتزامات قبل الأعمار.

الأهداف العامة تصلح للتعبئة فى إزاحة ما نخر بالدولة من عَجَز لكنها لا تؤسس بذاتها لرؤية واضحة للمستقبل، فالحرية قيمة إنسانية عليا لكنه يمكن التلاعب بها وارتكاب الجرائم باسمها وحديث الديمقراطية قد يقارب الحديث عن السعادة بوسع كل طرف أن يضفى عليها ما شاء على عكس مفهوم «حقوق الإنسان» فكل بند من مواثيقه الدولية واضح ومنضبط.

الأمر نفسه ينصرف إلى «العدالة الاجتماعية» فبوسع الجميع أن يتحدث عنها بذات درجة الحماسة دون أن تكون هناك قاعدة مشتركة لما هو مقصود ومطلوب، يستطيع أى رجل أعمال من الذين يطلبون عودة الماضى بوجوهه وسياساته وفساده أن يتكلم عن العدالة الاجتماعية دون أن يكون جادا كأنه فى حفل علاقات عامة لغسيل السمعة.

الكلام المراوغ كالتفكير العجوز يفضى إلى سرقة الثورات والانقضاض على جوائزها كما حدث بعد «يناير» من جماعة الإخوان المسلمين وكما يحدث الآن بعد «يونيو» من سعى محموم لعودة النظام الأسبق.

ببساطة لأننا لم نؤسس نظاما جديدا ولا أصلحنا مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية ولا امتلكنا رؤية للمستقبل تصاغ السياسات على أساسها.

القضية ليس فى سن من يتولى الوظيفة العامة أو المسئولية السياسية بقدر ما هى فى توجهاته وخياراته.

الدولة العجوزة تعنى معاندة المستقبل ومحاولة إعادة الماضى والدولة الشابة تعنى الانتقال إلى عصر جديد تحكم فيه مصر على قواعد دستورية.

من الطبيعى بعدد السنين أن تغادر الأجيال الأقدم أية وظائف سياسية وتنفيذية دون حرمانها من حق المشاركة العامة، فهو حق دستورى وإنسانى ثم أنه واجب وطنى إذا كانت الخبرة تسعف حيث لا تقدر الحماسة.

بذات القدر فإن تقدم الأجيال الجديدة إلى المناصب العليا حق للمجتمع قبل أن يكون حقا لهم، فالتجديد الجيلى والفكرى من متطلبات القدرة على مواجهة التحديات فى عصر مختلف.

بتلخيص ما فثمة صراع بين دولتين أحدهما عجوزة وأخرى شابة، الأولى تقطع الطريق والثانية لا تنفسح آفاقه أمامها.

فى عدم حسم الصراع تتفاقم أزمة الأجيال الجديدة التى تعرف ما لا تريده لكنها لا تعرف ما تطلبه وأزمة نظام سياسى لم يعلن عن نفسه ولا اتضحت خياراته الرئيسية، وكل أزمة تعكس الأخرى وتعمقها كأن المجتمع تيبست شرايينه.

العنوان الرئيسى فى أزمة الأجيال الجديدة هو الصراع على المستقبل وأية دولة نريد.

والحديث الرسمى المتواتر عن أزمة الشباب والحوار معه لا يساعد كثيرا على تجاوز ألغامها.

فلا هو ممكن احتواء الغاضبين الجدد بدعوات للمشاركة فى الانتخابات النيابية بقوائم تخصهم وحدهم، على ما دعا وزير الشباب «خالد عبدالعزيز»، دون أن يكون الكلام واضحا عن أى شباب نتحدث وأية توجهات نقصد.

باسم الشباب قد تتصدر المشهد بعض الوجوه التى تنتمى بالروح والممارسة إلى الدولة العجوزة.

وباسم الشباب قد يتصدى للتشريع من يدين بوجوده إلى المال السياسى، وهذا أسوأ ما كان فى «دولة العواجيز».

الاحتواء نفسه مستحيل بذات قدر التفكير فى أية وصاية.

لا هو صالح الكلام عن إسناد مناصب تنفيذية لأسماء بعينها من الشباب، التجربة نفسها سلبية، والفكرة أقرب إلى الرشى السياسية من أن تكون توجها يستهدف تمكين الأجيال الجديدة من حقها فى اكتساب الخبرة التنفيذية.

ولا هو كاف إجراء حوارات رئاسية دون أن تلحقها إجراءات تصحح البيئة العامة مثل تعديل قانون التظاهر وفق ملاحظات المجلس القومى لحقوق الإنسان والإفراج عن الموقوفين والمحكومين بموجبه.

الإجراءات بذاتها ليست حلا لأزمة الشباب بقدر ما هى رمزية لإمكانية حلحلتها.

أما التجاوز الحقيقى لدولة العواجيز فهو فى إصلاح مؤسسات الدولة وفتح المجال العام ومنع أية ممارسات تنتمى إلى الدولة البوليسية ومواجهة مؤسسة الفساد والالتزام بالقيم الدستورية دون تنكر لها أو اعتداء عليها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved