العرب يخرجون من تاريخ لم يكتبوه: من إسرائيل إلى داعش؟!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 7 يناير 2015 - 8:20 ص بتوقيت القاهرة

تجىء دعوة «داعش» إلى بعث الدولة الإسلامية بالخلافة فيها و«أمير المؤمنين» صوتا من الماضى الذى انقضى منذ زمن بعيد ولا مجال لعودته أو استعادته حتى «بالغزوات» التى تستخدم المدافع والعبوات الناسفة بدلا من السيف والرمح، والدبابات المنهوبة بالحيلة أو بهرب المكلفين بالحماية، بدلا من الحصان والجمل.

لا يكفى سقوط أنظمة الطغيان لبعث الخلافة.. والمذابح الجماعية التى تستهدف المسلمين، بعد إعادة تقسيمهم بحسب مذاهبهم، ومعهم الأقليات العرقية والدينية، لا تعيد بناء الإمبراطوريات البائدة بذريعة إحياء الدين.

صحيح أن شعوب المنطقة، مشرقا بالأساس ثم مغربا، قد تحملت فوق طاقتها من طغيان أنظمة الفساد التى كثيرا ما ارتكزت فى بنيانها على العنصر الطائفى، لكن المجازر الطائفية (المضادة) والعرقية ليست العنوان المغرى لخلافة بعنوان «داعش».

وصحيح أيضا أن الدعوة العربية التى حملت رايتها أحزاب، شعاراتها قومية قد سقطت فى مواجهة «السلطة» التى حرفت تلك التنظيمات والنخب والأحزاب التى كانت فى الشارع «نضالية» ثم أحرقتها السلطة ودفعتها بعيدا عن أهدافها.. لا سيما بعدما استولى عليها «العسكر» وخرج من بينهم من حكم بالسيف والطغيان، مستغلا رايات «الحزب القومى» وشعاراته الواعدة بأمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وبدولة الوحدة والحرية والاشتراكية..

لكن تلك الدعوة لاتزال الأكثر جدية وأهلية لإعادة جمع الشمل ومحاولة استنقاذ الغد.

من زمن بعيد حصل الافتراق بين أهل السلطة والشعار الذى حكموا به، واستخدموه مجرد غطاء أو قناع.. بل لقد كان ذلك الشعار أولى ضحايا تلك السلطة التى سرعان ما تحوّلت إلى ديكتاتورية الحاكم الفرد، الذى غالبا ما لجأ إلى طائفته لحماية نظامه.

•••

ظلت «العروبة» رابطا معنويا أو عاطفيا كهوية جامعة وإن تم توزيع «الرعايا» على كيانات سياسية مختلفة... وهكذا نشأت أحزاب وحركات سياسية «قومية» بشعارات عربية تتجاوز «المشرق» إلى الوطن العربى بكامله.

وبعكس حالة مصر التى ظل «كيانها» الجغرافى السياسى خارج البحث فى كل الأزمان، فإن أقطار المشرق التى استولدت لها دولها قيصريا لم يكن لها فى ماضيها ـ ما قبل العثمانى هويات سياسية محددة.. خصوصا أنه لم تكن ثمة حدود سياسية بين «الولايات» التى تتوزع فيها الأهالى انتماءات عشائرية أو قبلية لا تتوقف عند أى حدود.

بعد سقوط «الخلافة» التى كانت ترفع الشعار الدينى ولكنها تحكم بالسيف، عادت «أقوام» منطقة المشرق العربى إلى هويتها الجامعة التى تربطهم بأرضهم ـ أصل هويتهم. هم بأكثريتهم الساحقة من المسلمين، لكن الإسلام دين وليس هوية وطنية، ومع سقوط الخلافة كرابطة تستخدم الدين لأغراض سياسية، تاهت شعوب المشرق بين «الهويات» القديمة التى لم تعد قابلة للحياة.. ثم انتبهت إلى أن أهدافها السياسية تجمع بينها بالارتكاز إلى هوية أولية جامعة هى «اللغة».. ومجمع اللغة هو القرآن الكريم، لكنه، على أهميته، رابطة دينية وليس رابطة سياسية. والسياسة أوطان ودول وحدود ومصالح. فأما الحدود فقد رسمها المستعمر، والعراق هو بعض بلاد الشام، وكذا الأردن وفلسطين.. أما جبل لبنان فقد كان له دائما وضع خاص ناجم عن توظيف الدين، بل الطائفة، فى السياسة.. على أن المصالح مترابطة تتجاوز الحدود السياسية التى خطها قلم المستعمر، فحذف من سوريا ليبتدع كيان الأردن، وقايض بين سوريا والعراق فأخذ من الجنوب ليعطى فى الشرق، بينما أخذ من غرب سوريا ليعطى لبنان.. ولكن الناس هم الناس. والناس بأرضهم، والتقسيم السياسى لا يطال الأصول والأنساب، وإن كان قد فصل بين أبناء العشيرة الواحدة والقبيلة الواحدة التى لم تكن تعرف «الحدود» فوزعها بين أكثر من دولة..

•••

على هذا فالصراع بين «الإسلام السياسى» و «العروبة» التى تتضمن «الوطنية» ولا تلغيها، ليس جديدا فى البلاد العربية عموما وفى أقطار المشرق على وجه الخصوص.. بل لعل هذا الصراع قد أطل على ساحة العمل السياسى مع انتهاء الحقبة العثمانية، بعد استعادة الأتراك هويتهم القومية، وقدوم الاستعمار الغربى مع الحرب العالمية الأولى «ليرث» الأرض العربية بمن عليها.. تمهيدا لأن يعيد تقسيمها بين قطبيه المنتصرين، بريطانيا وفرنسا..

وحين أعاد الاستعمار (الجديد!) توزيع هذه التركة، فإنه لعب على التنوع الطائفى والمذهبى: رسم حدود «الدول» الجديدة وفق مصالحه.. وكان البريطانى أكثر حذقا وخبرة من الفرنسى، وهكذا فإنه قد «وصل» بين فلسطين والعراق مبتدعا كيانا رابطا بينهما هو «إمارة شرقى الأردن» التى سيكون لها دورها عند الانتقال من معاهدة سايكس ـ بيكو إلى تنفيذ وعد بلفور بإقامة دولة لليهود فوق أرض فلسطين العربية (إسرائيل).

بالمقابل، «ورث» الفرنسى «متصرفية جبل لبنان» التى كان الغرب قد فرض على «السلطان» القبول بها مرغما، بعد إعادة رسم جغرافيتها بضم نتف من ولايات عثمانية سابقة وعلى قاعدة طائفية.

أما سوريا فقد حاولت فرنسا تقطيعها دويلات طائفية ففشلت، وأكد السوريون وحدتهم فى الكيان الجديد متطلعين إلى إخوتهم الأشقاء فى كل من العراق والأردن ولبنان الذين كانوا معهم الأهل بالحسب والنسب رعايا سلطنة واحدة فصاروا رعايا أربع دول ـ مستعمرات بهويات سياسية مختلفة، مع محاولات للربط بين التقسيم الجديد والتوزع الطائفى أو المذهبى.

ربما لهذا اهتزت هذه الكيانات المستولدة حديثا مع زلزال تمكين اليهود بالدعم البريطانى بل الدولى المفتوح من إقامة كيانهم السياسى، إسرائيل، فى قلب هذا المشرق، مع الحرص على أن يكون أقوى من مجموعها، وفاصلا بينها مجتمعة وبين مصر وسائر العرب فى أفريقيا.

وربما لهذا انصرفت الأنظمة الحاكمة فى هذه الكيانات الهشة إلى محاولة حماية وجودها المستحدث عبر التسليم الاضطرارى بالهزيمة والقبول بالهدنة (الأولى).

•••

ولقد كانت الهزيمة المحرك الأساسى لمسلسل الانقلابات العسكرية التى شهدها المشرق العربى.

بعد ذلك سينتفض الجيش المصرى دفاعا عن كرامته وتقوم ثورة 23 يوليو 195.. بينما توالت الانقلابات العسكرية فى سوريا، وجرت أكثر من محاولة انقلابية فى الأردن، وكذلك فى العراق، وكانت جميعا تهدف إلى الرد على الهزيمة الساحقة أمام العدو الإسرائيلى، والتى اعتبرت الأنظمة القائمة مسؤولة عنها بالغفلة أو بالتواطؤ، ودفع جيوشها الفقيرة بالسلاح والعتاد إلى معركة غير متكافئة كان مؤكدا أنها ستُهزم فيها، مما سيمكن أكثر فأكثر للكيان الإسرائيلى الذى سيتبدى وكأنه الدولة الأقوى فى هذه المنطقة من العالم. ولسوف تحكم هذه الحقيقة المرة مسار الأحداث بعد ذلك، فارضة على العرب أن يختاروا بين الاستسلام بكياناتهم العاجزة، ومحاولة صد هذا الخطر الذى «باغت» دولهم المستحدثة بلا مقوّمات جدية وبلا قدرات حقيقية.

•••

كان على العرب أن يعيدوا بناء دولهم وهم محاصرون بالتخلف والفقر، ولقد اجتهدت نخبهم فى العمل من أجل الوحدة، باعتبارها الطريق إلى القوة.. وهكذا برزت إلى الساحة أحزاب وحركات سياسية تنادى بالعروبة وبضرورة الوحدة، ليس فقط لتحقيق حلم تاريخى عزيز، ولكن أساسا لحماية وجودهم فى مواجهة الخطر الإسرائيلى، خصوصا وقد ثبت بالدليل الدموى الذى لا يمكن دحضه أن إسرائيل أقوى منهم مجتمعين، فكيف وهم متفرقون بل ومتخاصمون إلى حد تواطؤ بعضهم ضد البعض الآخر حتى مع العدو الإسرائيلى.

وها هم العرب، ذاتهم، يواجهون ـ عبر أنظمتهم السياسية العاجزة والتى أنهكتها المغامرات العسكرية خارج الميدان الأصلى - عدوا جديدا لا يقل شراسة عن إسرائيل، ممثلا بتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام، الذى يقاتلهم من قلب دولهم بأنظمتها العاجزة والمتخلفة والتى يحكمها الفساد.

ولقد هربت الأنظمة التى تحكم بالشعار الإسلامى من ميدان المواجهة الجديدة بتشديد الحصار على الحدود، وتشديد القبضة البوليسية فى الداخل، بينما شاركت الأنظمة التى حكمت من قبل بالشعار القومى فى طلب النجدة الخارجية، وفتحت أجواءها أمام الطائرات الحربية الأمريكية والأوروبية والأسترالية التى جاءت تحمى «الإسلام» من المسلمين، وتحمى «العرب» من «الخلفاء» العرب.

والتاريخ ذاكرة البشر وحامل هوياتهم.

وها هم العرب مهددون بالخروج من التاريخ لأنهم لم يحفظوا جغرافية بلادهم التى هى الهوية مصدرها ومرجعها.. وكلما تاهوا عنها ضربتهم هزيمة جديدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved