علامات مرحلة فى العلاقات الدولية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 7 فبراير 2018 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

علامات لا تخطئها العين. إنها الخطوط والحروف والمواقف التى تجتمع حاليا فى صفحة جديدة فى كراس العلاقات الدولية. هناك من يراها صفحة «شخابيط» رسمتها أصابع مشاغبين أو أنامل أطفال لم يمسكوا بقلم من قبل. وهناك من يراها صفحة تعبر بالدقة الممكنة وبالصدق الكافى عن صعوبة المرحلة الراهنة فى العلاقات الدولية وتشابك تعقيداتها.

***

قرأت حديثا أدلى به قبل أيام «الأخضر الإبراهيمى» لمجلة أكاديمية بريطانية جاء فيه الكثير مما يجب أن يطلع عليه الدبلوماسيون وصانعو القرار. أختار من بين ما صرح به نقاطا ثلاث. اخترتها لأننى سمعته يرددها خلال فترة تمثيله الأمم المتحدة لدى الأزمة السورية وفترة توليه مسئولية قيادة مجموعة من الخبراء لوضع تقرير عن سبل إصلاح جامعة الدول العربية. لا أنقل عنه حرفيا فأوراقى فى مكان آخر ولكنى أنقل عنه المعنى. كان يرى أن الجماهير والنخب الحاكمة والقائدة فى العالم العربى فقدت الثقة فى قدرتها على حل الكثير من المشكلات وأصبحت تنتظر من يأتى من الخارج ليحلها. كذلك استمر يحمل الولايات المتحدة المسئولية عن كثير من مظاهر الاضطراب فى الشرق الأوسط. فى الوقت نفسه ظل مقتنعا بأن لروسيا دورا فى الشرق الأوسط وبخاصة فى الأزمة السورية يتعين عليها أن تمارسه، وسوف تمارسه. اليوم أستطيع أن أقرر أن الروس استجابوا لقناعة الإبراهيمى بل وأكثر مما كان يأمل وينتظر. أستطيع أيضا أن أضم النقاط الثلاث إلى لوحة العلامات التى تصور حال الشرق الأوسط الراهنة.

كبداية لحديث العلامات أكرر هنا أنه لدينا ثلاث علامات متفق عليها مع الخبير العربى والأممى الأخضر الإبراهيمى هى بالترتيب شعوب ونخب عربية يائسة من قدرتها على حل مشكلاتها منفردة، والثانية أمريكا لا تزال المسئولة عن كثير من أسباب الاضطراب فى المنطقة، والثالثة أن لروسيا دورا فى المنطقة يجب أن تلعبه وها هى تلعبه وربما توسعت فيه وفى اللعب.

***

أقترح إضافة علامة رابعة فى صفحة «الشخابيط» أو الخطوط المتشابكة فى كراس العلاقات الدولية الراهنة، هذه العلامة يجب أن تكون للصين. لا يحتاج المرء لكثير من الحنكة السياسية والدراية بدورات الصعود والانحدار فى النظام الدولى ليدرك أن الصين على الطريق إلى الشرق الأوسط. وصلت بالفعل طلائع قوتها، والمنطقة الآن فى انتظار وصول «العاصفة الصفراء» حاملة استثمارات ومشاريع تنموية ضخمة وقروضا بلا حصر وقواعد فى البحر وعلى البر، قواعد تبدأ خدمية لتنتهى عسكرية، وجحافل بشر للعمل ومد الطرق وتقديم الخبرة ونشر الثقافة الكونفوشية واللغة الصينية. الصين كما نلاحظ متريثة فى تنفيذ خطة الدخول إلى الشرق الأوسط، لديها أسبابها ولدينا اجتهاداتنا. كل ما يهمنى قوله الآن هو أن هذا التريث وتفاصيل نشاط طلائع القوة الصينية وغياب اكتراث النخب الحاكمة فى المنطقة بوصول الصين من عدمه، كلها علامة من علامات الصفحة الراهنة فى العلاقات الدولية فى الشرق الأوسط وحوله.

***

الغرب متردد سياسيا ومضطرب استراتيجيا ومتباعد الأجزاء سلوكيا. أتحدث هنا عن الغرب بمعناه الأوروبى ــ الأمريكى أى الغرب «عبر الأطلسى». الارتباك الغربى واضح على الجانبين. فى أمريكا، على سبيل المثال، حكومة شعبوية السلوك والاتجاه، تتمسك بأفكار قومية ساذجة تغطى بها عنصريتها وتمارس سلوكيات الصراع فى خصوماتها مع دول أوروبية حليفة. كانت تجربة السنة الأولى من حكم الرئيس دونالد ترامب مروعة لأنصار الفكرة الغربية ومؤيدى الحلف الغربى ودعاة الحضارة الغربية الواحدة. فى هذه السنة الأولى وحدها أخرج ترامب أمريكا من اتفاقية المناخ وأعلن تنكره لتطبيق المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو ثم عاد عنه. للمرة الأولى صار مستقبل الحلف موضع تساؤل. كذلك أثار انشقاقا واسعا عندما جدد تهديده إعادة النظر فى الاتفاقية النووية التى عقدها الغرب مع إيران، واتسعت الفجوة مع دول أوروبا عندما انفرد بإعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل.

على الجانب الآخر لم تكن الأمور أحسن حالا؛ إذ صادف وصول ترامب إلى السلطة فى أمريكا دخول أوروبا مرحلة إعادة لمِّ الشمل وترتيب البيت من الداخل. ثم وقعت واتسعت أزمة البريكسيت، وهى الأزمة التى هزت أوروبا إلى الأعماق وبخاصة عندما اجتمعت على الترحيب بها كل من روسيا وأمريكا فى وقت واحد، وعندما دفعت بدم جديد فى عروق الحركات والأحزاب القومية واليمينية المتطرفة. تصادف أيضا أن تعرضت أوروبا لتدفقات بشرية غزيرة فى شكل مهاجرين أو لاجئين من الشرق الأوسط اضطرت إزاءها إلى إغفال قضايا عالمية أخرى كانت تستدعى توحد الغرب وانتباه أوروبا بخاصة لها. حدث كل هذا وأكثر مثل النمو المطرد للاتجاهات الشعبوية والإرهاب وكلها عوامل لفتت انتباه وتركيز الحكومات الأوروبية بعيدا عن مصالح الغرب الكلية.

***

قرأت مؤخرا تقريرا صادرا عن «تشاتام هاوس» بعنوان العلاقات عبر الأطلسى: نحو تقارب أم تباعد. اشتغل على إعداد التقرير عدد من الباحثين النابهين ولمدة ثلاث سنوات. بحثوا فى عمق العلاقة بين الطرفين، الأوروبى والأمريكى، وفى عناصر قوة هذه العلاقة وعناصر ضعفها. ركزوا على احتمالات تطور العلاقة فى المستقبل واقترحوا عددا لا بأس به من التوصيات ليأخذ بها أو لا يأخذ صانعو السياسة ومنظمات المجتمع المدنى وغيرهم. التقرير برمته هام ويستحق القراءة والاستفادة من جانب من يهتمون بالعلاقات البينية فى المنطقة العربية وبعمل وأداء المؤسسات الإقليمية كالجامعة العربية ومنظماتها ومراكز البحوث. ركزت اهتمامى على العناصر المؤثرة أكثر من غيرها فى استمرار العلاقة بين جناحى الغرب، وبخاصة العناصر التى تدفع نحو تدهور هذه العلاقة بل وربما نحو تدهور الغرب بأسره كقوة يعتد بها فى الشرق الأوسط وفى العالم.

هذه العناصر ثلاثة وهى الوضع الديموغرافى وحال الموارد وأداء المؤسسات. فى الوضع الديموغرافى أكد واضعو التقرير على حقيقة صارت ملموسة وهى أن الغالبية العظمى من مجتمعات الغرب ومنها أوروبا وأمريكا مجتمعات تشيخ، بمعنى أن كبار السن صاروا يشكلون نسبة كبيرة من السكان، بكل ما يحمله هذا المعنى من عواقب سياسية وتكنولوجية واجتماعية وآثار مباشرة على العلاقات بين دول الغرب. أضف إلى هذا الوضع حقيقة أخرى وهى أن الهجرة من دول أمريكا الجنوبية إلى الولايات المتحدة وكندا سوف تستمر وفى الغالب باطراد، وأن الهجرة من دول الشرق الأوسط وأفريقيا إلى القارة الأوروبية سوف تستمر. لا شىء يشى بأنه فى القريب العاجل يمكن أن يتوقف تدفق الهجرة واللجوء السياسى. أيضا لا شىء يشى بأن يتوقف التغيير فى التركيبة الديموغرافية للدول الغربية.

***

أما عن حال الموارد وأداء المؤسسات فقد توصل التقرير إلى أن الجزء الأوروبى من الجماعة الغربية سوف يستمر كجزء ضعيف فى علاقات القوة داخل الجماعة الغربية. الموارد الأوروبية شحيحة وبخاصة فى مسائل الغذاء والطاقة على عكس الموارد المماثلة فى أمريكا. أمريكا فى النهاية تستطيع الصمود منفردة بدون أوروبا إذا فرضت عليها ظروفها التحول نحو عزلة تاريخية أخرى. فى الوقت نفسه أمريكا ليست بالقوة المادية ووفرة الموارد كما كانت فى نهاية الحرب العالمية الثانية. بكلمات أخرى لا يجوز لسياسى أوروبى عاقل أن يتصور أن أوروبا يمكن أن تعتمد على تجربتها التاريخية مع الولايات المتحدة، وأقصد مشروع مارشال جديد، لتنقذ نفسها من كارثة اقتصادية أو إعمارية جديدة.

***

رصد التقرير أداء عدد من المؤسسات المتعددة الجنسية التى قامت على أساس التكامل السياسى بين أوروبا وأمريكا واعتمدت على استمرار الغرب كفيلا لها وراعيا. توصل مؤلفو التقرير إلى حقيقة جديدة خلاصتها أن أغلب هذه المؤسسات، مثل الناتو والوكالة الدولية للطاقة النووية واتفاقية منع الانتشار، غير قادر على أداء واجباته والوفاء بالتزاماته على الوجه المرجو بل والضرورى.

***

نشهد فى الآونة الأخيرة صعود وانتشار توجهات شعبوية فى أداء السلطة السياسية فى عدد متزايد من الدول الغربية، يحدث هذا فى وقت نرصد فيه كل صباح نكوصا عن القيم الديموقراطية وأخلاقيات اختص بها بين القدامى شعوب أوروبية ونقلها عنهم مفكرون وفلاسفة من جميع الثقافات والحضارات. نرصد أيضا ميلا متزايدا لتقليد أسوأ وأبشع ما ابتكره الغرب من أساليب استبداد وكره لشعوب من أجناس وأعراق وأديان أخرى. نشهد، أو شهدنا قبل سنوات قليلة، أزمة كادت تقصف بالرأسمالية، درة التاج الغربى، وما زالت البشرية تدفع غاليا ثمن الخروج من هذه الأزمة. ليس خافيا أن نوعا من القوميات يزحف على أوروبا ويعكس نفسه على سياسات ومواقف الرئاسة الأمريكية الراهنة، نوع أقرب إلى القوميات القبلية التى كثيرا ما أودت بكيانات سياسية وزعامات إلى التهلكة. أضف إلى ما سبق توقعات متزايدة عن شباب جديد فى الغرب «رقمى» التنشئة والأحلام غير منتبه سياسيا ولا متفاعل مع مؤسسات وبطبيعته عابر حر للحدود الثقافية والسياسية.

أعود إلى ما يعكس الواقع الملموس، أعود إلى صفحة «الشخابيط» فى كراس العلاقات الدولية. هناك قد أجد التفسير المريح لواقع غربى شديد التعقيد والتشابك.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved