إصلاح الأجهزة الأمنية والتحول إلى الديمقراطية

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 7 مارس 2011 - 9:51 ص بتوقيت القاهرة

 ليس هناك أدنى ذرة من الشك فى أن إصلاح الأجهزة الأمنية فى مصر هو واحد من الأولويات القصوى ليس فقط لنجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير فى بلوغ أهدافها، ولكن لكى تقوم الدولة المصرية بأولى، بل وأهم واجباتها تجاه المواطنين، وهو توفير الحماية لهم ولأسرهم ولما يمتلكونه، ولتعزيز إحساسهم بالانتماء إلى وطن يشعرون فيه بالكرامة. وقد خاض فلاسفة السياسة فى الحديث عن الوظائف التى تقوم بها الدولة، وربما اختلفوا حول حدود تدخلها فى إدارة الاقتصاد والمجتمع، ولكنهم لم يختلفوا إطلاقا فى كون وظيفتها الأولية هى حماية المواطنين من أى اعتداء قد يمارس عليهم من أطراف داخلية، وكذا من أطراف خارجية.

وإصلاح الأجهزة الأمنية هو مسألة على درجة عالية من الإلحاح فى دول تمر بما تمر به مصر الآن من انتقال مأمول من أوضاع استبدادية إلى أوضاع أكثر ديمقراطية، ففى ظل الأوضاع السابقة لا تجد النظم الاستبدادية وسيلة لبقاء السلطة فى يد حكوماتها إلا باستخدام سلاح القمع فى مواجهة مواطنيها، وخصوصا عندما لا تملك وسائل الخداع الأخرى التى قد تتيحها ثروات طبيعية فى هذه البلاد، فترشوا بها المواطنين، أو تتحايل بالدين أو بعقيدة سياسية أخرى تدعى تمسكها بها، وتصرف بها نظر المواطنين عن انتهاكها هى لمبادئ هذه العقيدة.

وقد عرفنا هذا الوضع فى مصر فى ظل حكم الرئيس المخلوع حسنى مبارك، الذى منح أجهزة الأمن سلطات واسعة فى تعقب المعارضة السياسية التى كانت تشكل خطرا على حكمه من بين الإسلاميين، ولكنه أيضا سعى للحيلولة دون أن تصبح أى من قوى المعارضة الأخرى تهديدا لحكمه من خلال الانتخابات، أى انتخابات، سواء كانت تشريعية أو نقابية أو فئوية. ولذلك كان يعول على أجهزة الأمن فى مراقبة أى تجمع منظم للمواطنين، سواء فى النقابات المهنية أو العمالية، أو الغرف التجارية، أو نوادى هيئات التدريس أو الاتحادات الطلابية. ولكن هذه السلطة المطلقة التى تمتعت بها أجهزة الأمن قد أدت إلى أن أصبحت تتجاهل أى ضوابط فى تعاملها مع المواطنين العاديين، ومن ثم فقد أصبحت خطرا ليس فقط على المواطنين الذين يقاومون الاستبداد بالرأى والكلمة الحسنة، ولكن صارت كذلك لعنة مسلطة على عامة المواطنين، تتقاسم معهم أرزاقهم، وتجد متنفسا للنزعات الشريرة فى نفوس بعض عناصرها بإساءة معاملتهم، وكذلك بتعذيبهم، كما اتضح ذلك فى حالات عديدة ثار فيها المواطنون على هذه الأجهزة لأسباب لا علاقة لها بالسياسة. وطبيعى أنه فى مثل هذه الظروف ينهار الحس الأخلاقى لدى قيادات هذه الأجهزة، ومن ثم شهدنا هذا الموقف المستهتر منها عندما غابت عن ربوع الوطن منذ الثامن والعشرين من يناير، ولم يظهر لأى من جنودها أثر، فلا ضباط المرور يقومون بواجبهم، ولا حتى الخفراء فى قرى مصر كان لهم وجود.

خطوات الإصلاح

الخطوة الأولى فى الإصلاح هى الاعتراف بالخطأ، بل وبالجرم الخطير الذى ارتكبته قيادات الداخلية بالأسلوب الوحشى الذى استخدمته فى التعامل مع المواطنين بصفة عامة، وعلى وجه الخصوص أثناء أيام الثورة الأولى، وباختفائها المفاجئ من مدن وقرى مصر. ويجب أن يكون هذا الاعتراف صريحا وعلنيا ومدويا، وبدونه لن يكون هناك أى تقدم على طريق الإصلاح، ولا يجدى فى هذا المقام أن يدعى أحد أن مثل هذا الاعتذار العلنى سوف يحط من معنويات رجال الشرطة، ويقلل من حماسهم للقيام بدور جديد فى خدمة الشعب، فبدون هذا الاعتراف والاعتذار لن يكون من السهل على المواطنين أن يقبلوا بأن يعاملوا هذا الجهاز بالاحترام والتوقير الذى ينبغى أن يتمتع به.

والخطوة الثانية هى فى إدراك أن المطلوب ليس فقط تفكيك بل وحل جهاز أمن الدولة، بل إن المطلوب هو إعادة بناء جهاز الشرطة بأكمله، فالمعاملة المهينة، والاستهتار البالغ بحقوق المواطنين، والتحيز فى التعامل معهم، لم يكن قاصرا على من شاء سوء حظه أن يقع تحت براثن زبانية أمن الدولة، ولكنه امتد إلى الغالبية الساحقة من المواطنين، خصوصا الفقراء منهم ممن لم يكن من حظهم أن يعرفوا واسطة أو كان لهم من الجاه الاجتماعى ما يقيهم من سطوة هذه الأجهزة.

على الرغم من أن ضباط الشرطة قد تعلموا فى كلية الشرطة أساليب التحقيق والاستدلال العلمية، إلا أن غياب الرقابة على هذا الجهاز، وانعدام سبل المساءلة من جانب الرأى العام، وبقايا قيم الخضوع للسلطة فى الموروث الثقافى فى مصر شجعت هؤلاء الضباط على نسيان ما تعلموه فى أكاديمية الشرطة، وأصبح أسلوبهم المعهود فى التحقيق فى الجرائم هو باستخدام العنف فى مواجهة المواطنين، بل وتلفيق الأدلة. وبطبيعة الحال لم يؤد ذلك إلى أى تحسن فى الأوضاع الأمنية. وهكذا شهدنا إخفاقا مزريا من جانب الشرطة فى التحقيق واكتشاف المسئولين الحقيقيين وراء العديد من الجرائم، منها قتل مواطنين والتمثيل بجثثهم فى ملوى، أو قتل فتاتين فى مدينة ٦ أكتوبر، أو سرقة لوحة زهرة الخشخاش من متحف محمد محمود خليل، وغيرها كثير مما روع الرأى العام، ولم تجد له أجهزة الشرطة بمئات الآلاف من العاملين فيها، وميزانيتها الضخمة، وبمبانيها الواسعة المترامية فى جميع الأنحاء تفسيرا مقنعا.

ثم هناك ضرورة إعادة تربية رجال الشرطة قيادة وضباطا وجنودا. إن روح حقوق الإنسان يجب أن تكون هى الموجه لعمل الشرطة، ولا يكفى هنا مجرد إلقاء محاضرات على الجنود والضباط لشرح مرامى مبادئ حقوق الإنسان فى التعامل مع المواطنين بصفة عامة للحصول على الخدمات المدنية التى تضطلع بها، أو هم موضع الاتهام، بل خصوصا عندما يدانون، فحتى فى هذه الحالة الأخيرة هناك ضوابط ارتضاها المجتمع الدولى للتعامل مع السجناء، ويجب أن يكون احترام مبادئ حقوق الإنسان هو واحد من أهم المعايير التى تطبقها الشرطة على نفسها فى محاسبة أفرادها وفى تقرير صلاحيتهم للترقية.

ومن المهم فى هذا الخصوص إدراك أن سلوك بعض رجال الشرطة فى الماضى تجاه المواطنين المسيحيين كان ينضح بالتعصب، ولن أفصل كثيرا فى هذه القضية، فأسلوب التعامل مع ما يدعى من انتهاكات لقواعد بناء أماكن العبادة لم يكن واحدا بالنسبة للمسيحيين والمسلمين، فإلى جانب التشدد فى المقاومة العنيفة لادعاءات انتهاك المسيحيين لهذه القواعد، كان هناك التساهل والتغاضى عن انتهاكات أكبر بكثير يقوم بها مسلمون يقيمون زوايا للصلاة دون تصريح وفى أماكن لا تصلح إطلاقا لذلك. وهناك أبعاد أخرى لهذه القضية.

ولا يجب أن تترك مسألة سلوك رجال الشرطة لرجال الشرطة، وإنما ينبغى أن يقيم مجلسا البرلمان من أعضائهما رقيبا على احترام الشرطة لهذه القواعد.. يجب أن تكون هناك لجنة متخصصة فى مجلس الشعب، وكذا مجلس الشورى إذا كان سيقدر له البقاء، تتولى متابعة مدى توافق سلوك رجال الشرطة مع هذه القواعد، يقدم لها وزير الداخلية تقريرا دورى عن أداء رجال، ويحضر بنفسه مناقشة هذا التقرير أمام مجلس الشعب، ويوقع الجزاء الرادع على من يثبت خروجه عن هذه القواعد، بل ويتحمل هو المسئولية عن عدم اتخاذ الإجراءات الحازمة تجاهه.

تصفية الأمن المركزى وجهاز أمن الدولة

ليس هناك ما يدعو، ونحن ننتقل إلى أوضاع أكثر ديمقراطية، إلى الإبقاء لا على مئات الآلاف من المجندين فى الأمن المركزى، ولا لجهاز أمن الدولة. إذا كانت الدولة تحترم حق الإضراب والتظاهر السلميين للمواطنين، فما هى الحاجة إذن لكل هذه الأعداد الهائلة من الجنود والضباط الذين يدربون على استخدام أقسى العنف فى التعامل مع مواطنين يمارسون حقوقا يقرها لهم الدستور والقوانين فضلا عن معاهدات دولية صدقت عليها مصر، وإذا كان الحق فى التجمع السلمى وتكوين الجمعيات والنقابات والأحزاب السياسية فضلا عن حقوق التعبير والاعتقاد هى ما يصونه الدستور، ولم تعد هناك جماعات سياسية لا يتسع لها نظام ديمقراطى بازغ، فلماذا الاحتفاظ بجهاز يمارس الرقابة على الجمعيات والنقابات والغرف التجارية والمدارس والجامعات والصحافة وأجهزة الإعلام فضلا عن المساجد والكنائس. لم تعد لهذا الجهاز مصداقية ولا يرجى منه نفع. وهناك أجهزة أخرى فى الدولة تراقب أمنها الخارجى، وأظن أنها على درجة عالية من الكفاءة.

لقد أهدر جهاز أمن الدولة «أمن الدولة» فى تعامله مع المسيحيين والإسلاميين وبدو سيناء، كما أنه لم يجد الدولة نفعا عندما خرجت الملايين ثائرة عليها. ويمكن إحالة قضايا الإرهاب إلى أحد فروع المباحث الجنائية، وسوف يوفر تصفية هذين الجهازين ما يكفى من أموال لرفع مستوى أجور ورواتب صغار العاملين فى جهاز الشرطة من ضباط وجنود.

لا شك أن الحديث يطول عند التعرض لقضايا إصلاح هذه الأجهزة الأمنية، ولكن الأمر المهم هو ألا تختزل هذه القضية فى تفكيك جهاز أمن الدولة، فالمسألة أوسع بكثير، والسياق الأصلح لطرح الحلول بشأنها هو إعادة تشكيل كل هذه الأجهزة المسئولة عن الأمن الداخلى، فالكارثة هنا ليست فقط فى معاناة من يهتمون بالسياسة، ولكنها هى فى أسلوب تعامل هذه الأجهزة مع المواطنين عموما، وضرورة رفع كفاءتها لتقوم بتوفير الأمن الحقيقى لكل المواطنين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved