صورة مقربة عن العراق تحت الاحتلال

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 7 يوليه 2010 - 9:53 ص بتوقيت القاهرة

 على امتداد دهر الحرب الأهلية فى لبنان كان يمكن قراءة الأحوال العربية من خلال التطورات الدموية وتزايد الحدة فيها أو الميل نحو الهدوء تمهيدا لتسوية محتملة، ولو مؤقتة، فى انتظار أن يحين موعد «الصفقة» الكاملة التى كان مؤكدا أنها تجرى فى عواصم التأثير، قريبة من بيروت أو بعيدة جدا عنها.

لم تكن مبالغة أن يقال إن التفاوض كان يجرى بالدم: كلما اصطدم بعقبة ما، كأن يتشدد هذا الطرف أو ذاك ــ أو يتدخل عنصر «مشاغب» لم يكن ملحوظا له دور معطل، تعنف المعارك ويتساقط الشهداء ضحايا تعقيدات فى شروط الصفقة.. حتى إذا ما تم استيعاب العامل الطارئ عاد الأطراف إلى الطاولة (غير المرئية) وقد عدلوا «شروطهم» بما يتناسب مع التطور الجديد!

ها هى المحنة تتكرر، أفظع وأقسى، فى العراق الذى أنهكه الطغيان وخلخل وحدته الوطنية ثم أورثه للاحتلال الأمريكى فتولاه بعنايته الفائقة حتى حوله إلى جحيم يحترق فيه ما تبقى من دولته ووحدة شعبه وقدرته على الصمود كوطن وبالتالى ككيان سياسى موحد.

العنوان شبه الثابت على صدر الصفحات الأولى من الصحف، عربية وأجنبية، منذ شهور يجسد العجز الفاضح عن تشكيل حكومة، وبالتالى عن «انتخاب» أو اختيار رئيس جديد للجمهورية (أو مجلس رئاسى) ومن ثم انتخاب أو اختيار أو التوافق على شخصية رئيس المجلس النيابى.

ذلك أن الانتخابات النيابية التى أجريت فى ظروف معلومة وضمن ترتيبات خاصة، فرضت أن يكون التنافس ضمن «كيانات سياسية» مؤتلفة بالاضطرار، قد انتهت إلى تكريس الانشقاق الطائفى ــ المذهبى والعنصرى: لقد انتخب العرب العرب، والكرد الكرد.. وبين العرب انتخب الشيعة مرشحيهم الشيعة، وانتخب السنة مرشحيهم السنة! هكذا جاء «مشروع» المجلس النيابى الجديد مشروخا، يفتقد وحدته كمؤسسة جامعة، وبالتالى قدرته على تجسيد الوحدة الوطنية.

أما الشيعة، وهم الأكثرية العددية، فمتشوقون إلى انتزاع الاعتراف بهم كأكثرية، وتعويض دهر الغبن الذى لحق بهم على مستوى السلطة منذ إقامة الكيان السياسى للعراق (الحديث) مع دخول الاحتلال البريطانى بعد تجزئة المشرق العربى.. عشية انتصار الحلفاء فى الحرب العالمية الأولى فى العام 1920.

لقد واجه العراقيون الاحتلال موحدين فى الثورة الشعبية الأولى (ثورة العشرين).. وبعد ضرب تلك الثورة، والاستعانة بالهاشميين عبر تنصيب فيصل الأول ابن الشريف حسين ملكا على أرض الرافدين، باشر الاحتلال لعبته التقليدية: «فرق تسد»، فاستبعد الشيعة عن السلطة، مستفيدا من التباس مذهب الملك الهاشمى، ومن واقع أن الشيعة أهل ريف فى حين أن السنة أهل مدن، وأهل سلطة، نتيجة تراكمات تاريخية معروفة (الخلافة الأموية، ثم العباسية، ثم المماليك فالأتراك.. إلخ)..

ثم إن الاحتلال الأمريكى قد دخل العراق بسهولة مفجعة.. وكان لذلك أسباب واضحة: فالجيش مدمر، ليس فيه من قوة عسكرية فعلية إلا الحرس الجمهورى، والشعب مجوع ومضطهد، ممزقة وحدته، مدنه خرائب، بما فى ذلك بغداد، والعلاقات بين «مكوناته» مختلة. ذلك أن القمع قد اتخذ طابعا عنصريا مع الكرد فى الشمال، وبالمقابل فقد اتخذ طابعا مذهبيا مع الشيعة فى الجنوب والوسط ومعظم بغداد.. دون أن يعنى ذلك أن «السنة» فى الغرب كانوا ينعمون برفاه الامتياز: وحدهم أقارب صدام حسين أو المقربون منه عاشوا فى النعيم، بينما غرقت المدن فى بؤس غير مسبوق، فتناثرت الضواحى العشوائية أسوارا من الفقراء وأهالى المقتولين فى الحروب العبثية، من حول بغداد والبصرة والنجف والحلة وواسط..

أما الأسعد حالا فتمثل فى الملايين الذين هاجروا العراق أو هجرهم البطش منه فلاذوا بالمنافى القريبة، وبالذات إيران وسوريا والأردن إلى حد ما.

والملحوظ أن التهجير قد ارتدى هو الآخر طابعا مذهبيا، فذهب السنة إلى السنة والشيعة إلى الشيعة، إلا من أسعده قدره بتأشيرة إلى دولة أوروبية، بريطانيا أو الشمال الأوروبى (السويد ــ النرويج ــ الدنمارك) أو الولايات المتحدة الأمريكية.

ولقد طالت الهجرة واستطالت حتى فقد الناس صلاتهم بواقع بلادهم أو كادوا..

وهكذا فإن العائدين مع الاحتلال الأمريكى، وأحيانا فوق دباباته، إنما عادوا إلى بلاد لا تعرفهم ولا هم يعرفونها فعليا.

ثم إن العراقيين كانوا قد هجروا الحياة السياسية، بالأمر، منذ أمد طويل حتى غدوا أشتاتا لا يجمع بينهم جامع من فكر أو اهتمام بالشأن العام: فالأمر لصاحب الأمر، الحزب حزبه الشخصى، والنقابات قصور من كرتون تشكلها المخابرات، و«الأحزاب» الحليفة لصاحبها حزب البعث العربى الاشتراكى لصاحبه صدام حسين.

وعلى المستوى الشعبى كان حجم الدمار فظيعا: تسبب القمع فى تدمير الروابط جميعا، السياسية والنقابية، العائلية والشخصية. كان «المخبر» طرفا ثالثا فى العلاقة بين أى اثنين، حتى بين الرجل وزوجته، وبين الأب وابنه والأم وابنتها.

كان الكرد فى مقهرهم الشمالى قد نالوا حماية أمريكية معلنة ابتداء من 1991، إثر الحرب على صدام حسين لإخراجه من الكويت التى كان غزاها انتقاما من شيوخ النفط الذين دفعوه إلى شن الحرب ضد إيران، والتى امتدت لثمانى سنوات دموية منهكة ذهب ضحيتها ملايين القتلى والجرحى، فضلا عن الخراب الشامل الذى أصاب البلدين الجارين.. ثم تنكروا له ولم يعوضوه ذهبا بدل الدم المبذول فيها!

ولقد شجعت الحماية الأمريكية وتجسيم الخسائر التى أصابت المناطق الكردية فى شمال العراق، ومعها شىء من التعاطف الدولى والمساندة الإسرائيلية الواضحة، على تعاظم طموح الأكراد إلى الاستقلال فى دولة تكون خالصة لهم، ولو من دون إعلان رسمى مباشر.

أما فى الجنوب فكان حجم التدمير المنهجى هائلا: فلقد كان هذا الجنوب بعض أرض الحرب التى شنها صدام على إيران، أهله هم ضحاياها المباشرون، سواء فى مناطقهم التى تم تخريبها تماما، أو فى أعداد من فقدوا من أبنائهم سواء كجنود أو عبر الغارات وعملية القصف الصاروخى والمدفعى والعمليات الخاصة.. ثم عبر الانتقام المريع الذى باشره ضدهم صدام حسين إثر الحرب الأمريكية (العربية) عليه لإخراجه من الكويت.

ولقد امتد الخراب إلى كل ناحية فى العراق، بغير تمييز بين طوائفه وعناصره ومكوناته الأهلية: فى العمارة، فى التعليم، فى الصحة، فى العلاقات الاجتماعية، فى الاقتصاد والاجتماع، وصولا إلى القوات المسلحة التى أنهكت فى مسلسل لا ينتهى من المغامرات العسكرية البائسة وفى حملات القمع الدموية ضد.. شعبها.

فلنتصور آثار ذلك كله على الشعب فى وحدته، فى احتياجاته، قبل أن نتنبه إلى واقع التشرذم السياسى فى ظل حقيقة مؤكدة: أن العائدين من المنافى هم بمجملهم مجموعة من الطامحين إلى القيادة فى بلد غابوا عنه طويلا حتى نسيه أهلهم فيه أو كادوا.. ثم إنهم يتنافسون فيما بينهم بمدد النفى أو الاغتراب القسرى، حيث كانوا معطلين عن الفعل وعن التواصل مع «شعبهم» الأسير.. فضلا عن أنهم كانوا يتنافسون فيما بينهم على التقرب من الحاكم الجديد: المحتل الأمريكى.. مع مراعاة عدم إغضاب إيران، الجارة القوية، وقد كان عدد كبير منهم لاجئا فيها، ومن ثم التودد إلى أهل النفط فى السعودية والخليج، من دون التنكر لسوريا التى استضافت أكثريتهم لعقد وأحيانا لعقدين من الزمان

لعل هذه اللوحة، تعطى صورة عن عراق اليوم.. ولقد تجنبنا قصدا أسماء الأشخاص أو الكتل السياسية التى أنشئت على عجل، غالبا، وبغير مرتكزات فكرية أو برامج سياسية، وتحت ضغط الاحتلال الأمريكى الذى «أنجز مهمته» فى تدمير العراق فشطبه فعليا عن خريطة التأثير، وشرع أبوابه أمام كارتل النهابين من الداخل (قيادات سياسية وسماسرة وباعة أوطان) ومن الخارج دولا (وفى الطليعة إسرائيل) وشركات تريد النفط والاستثمار سريع العائد وبغير مخاطرات.

لتلخيص المشهد العراقى، يمكن القول إن «الأكراد» قد استقلوا بشمالهم، وهم يعملون بدأب لضم كركوك إليه، والموصل (إن استطاعوا)، ثم أنهم يريدون الاحتفاظ برئاسة الدولة وتحويل الاستثناء (بترئيس جلال الطالبانى فى الفترة السابقة) إلى عرف يعتمد فى كل الأزمنة، فضلا عن وزارة الخارجية، وعن قيادة العديد من ألوية الجيش والشرطة والمخابرات التى تولوها بشكل مؤقت، لأنهم كانوا الأكثر تماسكا فى حضورهم بعد الاحتلال الأمريكى.

أما الشيعة الذين يرون أنهم قد حرموا من تولى الحكم، برغم كونهم الأكثرية، منذ قيام الدولة العراقية، فيريدون رئاسة الحكومة ومجموعة من مواقع القرار، ليس فقط للتعويض عن الماضى بل أساسا لضمان مستقبلهم فى وطنهم.

وأما السنة الذين يرون أنهم يجبرون على دفع ثمن خطايا صدام حسين مرتين، فإنهم يطالبون بحصتهم من كعكة النظام توازى حجمهم فى البلاد وأهليتهم، وهم لا يعتبرون أن رئاسة المجلس النيابى مع بعض الوزارات والإدارات تحقق مطلبهم.. خصوصا أن الكرد قد انشقوا عن عموم العراقيين واعتبروا أنفسهم «قومية» بكيان خاص، ولا يقبلون أن يحتسبوا ضمن السنة ولا أن يقاسمهم السنة ما يفترضون أنه حقهم، فضلا عن كونه ــ فى بعض جوانبه ــ تعويضا عما قاسوه فى ماضيهم.

المسألة فى العراق أخطر من أن تكون توزيع حصص فى «المواقع السيادية» بين مكوناته الطائفية والمذهبية والعنصرية.

إن الاحتلال الأمريكى قد أنجز مهمته بنجاح باهر، متمما ما حققه صدام حسين بكفاءة منقطعة النظير: إنه يلوح بمغادرة العراق وقد حوله إلى أرض محروقة بالحرب الأهلية، التى يمكن أن تتفجر فى أى لحظة، والتى يمكن أن تتمدد إلى ما جاوره من أقطار.

وليس من مغيث أو منجد قادر مؤهل على التقدم لنصرة العراق ومنع «الفتنة الكبرى» من أن تتجدد لتدمر ما تبقى من هوية هذه الأرض وأهلها، وإغراق هذه «الدولة» التى استنبتت على عجل فى دماء من كانوا يحلمون بأن يكونوا «مواطنيها».

وبهذا تفرغ الساحة لإسرائيل لتكون دولة أولئك الأقوام الذين كانوا فى التاريخ عربا، والذين يعجزون الآن عن حماية وجودهم كبشر، ناهيك بان يحموا أوطانهم بعدما فشلوا فى أن ينشئوا دولهم فيها.

وحبل الدم موصول بين العراق ولبنان واليمن مرورا بأقطار الخليج، قبل الحديث عن مخاطر التصادم مع إيران (لأسباب لا علاقة لها بالمصلحة العربية أو المستقبل العربى)، ودائما لتحقيق ما عجز الاحتلال الأمريكى عن تحقيقه بالقوة.

ومن أسف، فلا منجد ولا مغيث تلتفت إليه الأم العراقية الآن لتنادى: وامعتصماه!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved