بأي حال عدت يا رمضان؟ .. التوترات والفتن في العالم الإسلامي

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 7 سبتمبر 2009 - 11:55 ص بتوقيت القاهرة

 ينجذب اهتمامنا، كإعلاميين، إلى أحداث نشعر بأن تداعياتها ستكون مهمة. نشتغل عليها، كل حدث على حدة، ونتركها بعد قليل من البحث أو التحليل إلى أحداث أخرى أو نعود إليها إن أستجد ما يستدعى العودة، وهكذا. ولكن حين تجتمع أحداث تتشابه مكوناتها أو تتكرر ظروفها أو يتجاوز ترددها حدود الصدفة، فإننا نتوقف أمامها طويلا، لأنها فى تقديرنا صارت ظاهرة ولم تعد أحداثا متفرقة.

شد اهتمامنا مؤخرا حادث اغتيال السيدة مروة الشربينى فى ألمانيا. وقررنا، أو قرر بعضنا على الأقل، اعتباره على أهميته حادثا منفردا، أو حادثا خطيرا ولكن فى إطار مصاعب يواجهها الأوروبيون من أصول إسلامية والمسلمون المقيمون فى أوروبا.

وبعده، أو فى أثناء الاهتمام به، انجذبنا إلى حادثة الصيادين المصريين الذين اختطفهم قراصنة صوماليون وتابعنا بفرحة وألم وأيضا بكثير من المهانة التطورات السخيفة التى توالت بعد عودتهم إلى أرض الوطن. وفرغنا، أو كدنا نفرغ من حادث الصيادين وقصص البطولات الحقيقية والمزيفة، لنجد اهتمامنا منجذبا إلى مصادر أجنبية تتنبأ بقرب انفجار حرب أهلية جديدة فى البوسنة، أطرافها مسلمو البوسنة وكرواتيوها وصربيوها. وقبلها بأيام تصادف أن قرأنا عن أن إقليم آتشيه فى إندونيسيا الذى حصل منذ فترة قصيرة بفضل ضغوط دولية وتضحيات هائلة على حقه فى الحكم الذاتى، يستعد للعودة إلى التمرد إما لأن الحكومة المركزية فى جاكرتا خدعته أو لأنه لم يحصل على ما كان يحلم به من رخاء واستقرار وسعادة فى ظل الحكم الذاتى والوئام الطائفى.

تشاء الظروف أن يقع فى الوقت نفسه تمرد شديد فى إقليم سينكيانج فى أقصى غرب الصين، وهو الإقليم الذى تسكنه غالبية من المسلمين الإيجور المنحدرين من أصول تركمانية. ثم حدث أن نشبت حركة فى الإقليم الشمالى ذى الأغلبية المسلمة فى نيجيريا وهبت نفسها لتحقيق هدف النضال ضد التعليم الأجنبى. وانتهى الأمر بقتل أغلب أعضائها فيما يشبه مذبحة دبرتها أجهزة الأمن النيجيرية بمساعدة مستشارين عسكريين أجانب.

****

وقعت هذه الأحداث جميعها خلال فترة قصيرة جدا مما دفعنا لنراها فى شكل ظاهرة وليست أحداثا متفرقة وإن جمعها القاسم الإسلامى. ومع مزيد من التأمل والتعمق تأكدت الظاهرة، على الأقل من وجهة نظرنا وبخاصة بعد أن تبين لنا أن النسبة الغالبة من بؤر التوتر فى العالم تكاد تحتكرها دول وأقاليم العالم الإسلامى والتجمعات الإسلامية فى دول المهجر وفى الدول التى تعيش فيها أقليات مسلمة. ففى إندونيسيا مثلا تدور اشتباكات بين المسلمين والمسيحيين منذ عام 2007 بسبب الهجرة المتزايدة للمسلمين إلى مقاطعة بابوا الغربية، ولكن أيضا بسبب ما خلفه الصدام القديم الذى نشب فى العاصمة مالوكو حين حاول مسلمون بناء مسجد ومركز دينى فى مدينة مانو كوارى فى مكان كانت مقامة عليه كنيسة شيدتها منذ عشرات السنين بعثة تبشير ألمانية. يقول المسلمون إن الأصل فى بابوا هو العقيدة الإسلامية منذ قديم الزمان.

ويقول زائرون إلى بابوا إن الأزمة الحقيقية سببها خلافات بين مسلمين ومسلمين، مسلمين جاءوا بتقاليد وممارسات مستوردة من الخارج لا تناسب تقاليد إندونيسيا وعاداتها، ومسلمون تقليديون عاشوا فى انسجام مع المواطنين المؤمنين بعقائد أخرى إلى أن وصلت أفكار دينية متطرفة من بلاد فى غرب آسيا أشعلت نيران الانقسام بين المسلمين. وفى إقليم بوظو تقع من حين لآخر اشتباكات بين المسلمين والمسلمين، ويقول مراقبون متابعون للحركة الإسلامية إن إندونيسيا فى نظرهم تتصدر الآن قائمة المجتمعات الأسرع فى تجنيد الشباب لحركات الجهاد والعمل الإسلامى، ويتأكد هذا الاقتناع من تقارير اكتشفت وجود أعداد وفيرة من قيادات إسلامية إندونيسية تساعد الناشطين الإسلاميين فى كل من الفلبين وتايلاند وماليزيا، ومن تقارير أخرى نشرت عقب أحداث التفجير التى وقعت فى جاكرتا يوم 17 يوليو الأخير.

ومن إندونيسيا ننتقل إلى تايلاند حيث بلغ عدد ضحايا العنف الناشبة بين جماعات التمرد الإسلامية فى جنوب البلاد وقوات الحكومة أكثر من 3400 قتيل خلال السنوات الخمس الماضية.. وتقول التقارير الأمنية أن التمرد فى تايلاند لا تقف وراءه جماعات أو حركات منظمة كالحال فى الفلبين وإندونيسيا. الحادث فى تايلاند لايزال فى إطار تحركات شعبية تحتج على إهمال لغة سكان الإقليم وعاداتهم وتقاليدهم، وإن كان بعض القادة المسلمين يعلنون بين الحين والآخر أنهم يحلمون ببعث سلطنة باتانى الإسلامية التى كانت تهيمن على جميع مقاطعات جنوب تايلاند قبل أن تنضم قسرا إلى مملكة سيام فى عام 1902، ويطلبون أيضا إقامة حكم الدين وطرد البوذيين من جنوب تايلاند.

أغلب الظن أن أسبابا كثيرة دفعت مسلمى تايلاند للثورة، منها على سبيل المثال التخبط السياسى فى بانكوك وتدهور سمعة الحكومة وقسوة ممارسات الجيش والأمن وبخاصة بعد أن حشد أكثر من 60.000 جندى لاستعادة الهدوء فى جنوب البلاد. يتردد أيضا أن المسلمين غاضبون بسبب إصرار بانكوك على أن يكون معلمو المدارس من خارج المقاطعات الإسلامية، وهو الإصرار الذى تسبب فى مصرع أكثر من مائة وخمسة عشر مدرس فى شهور قليلة على أيدى مواطنين يعتبرون المعلمين عملاء للسلطة.

ومن إندونيسيا وتايلاند والفلبين التى اشتعلت فيها مجددا الحرب ضد مسلمى منديناو إلى سيريلانكا، حيث جرت لسنوات عديدة حرب أهلية بين حركة نمور التاميل والحكومة المركزية التى تمثل الأغلبية السنهالية وسقط فيها ألوف الضحايا. وما لا يعرفه الكثيرون أن بين هؤلاء الضحايا سقط مئات المسلمين على أيدى نمور التاميل، فالمسلمون فى سريلانكا يعيشون فى مناطق الشمال والشرق، أى فى المناطق التى حارب التاميل لتحريرها وإقامة حكم ذاتى فيها.

ومن سيريلانكا نتوجه شمالا عبر المضيق إلى شبه جزيرة الهند، حيث تقوم ثلاث دول يعانى المسلمون فيها جميعا أنواعا شتى من العذاب، فالمسلمون فى الهند، وإن كانوا أقلية كبيرة، إلا أنهم يتعرضون بين الحين والآخر لعمليات «إجرامية» تشنها جماعات هندوسية متطرفة، ومع ذلك تظل هذه الاعتداءات متناثرة وأقل خطورة مما يتعرض له المسلمون فى بلاد البالوش على أيدى القوات المسلحة الأمريكية والباكستانية، وفى لاهور عاصمة إقليم البنجاب وغيرها من المدن الباكستانية على أيدى عناصر طالبان والجماعات المسلحة الأخرى، ولايزال الاغتيال السياسى الذى رافق قيام الدولة الباكستانية مستمرا كعلامة مميزة لباكستان، وكان آخر ضحاياه بنازير بوتو ومحسود الزعيم القبلى الذى وجهت إليه أصابع الاتهام بالضلوع فى اغتيالها.

وعلى الناحية الشرقية من شبه جزيرة الهند لايزال سكان بنجلاديش يعانون أسوأ أنواع الفقر والفيضانات والأعاصير والفساد السياسى والجوع والمرض، ويعيشون كمسلمى باكستان فى ظل شبح الانقلابات العسكرية، وكان آخرها الانقلاب الذى وقع فى يناير 2007 بهدف تطهير الحياة السياسية من الفساد، وقد اعتقل وقتها ما يزيد على 440.000 شخص بتهمة الفساد، وعلى رأس المعتقلين الرئيستان السابقتان خالدة والشيخة حسينة.

****

ولسنوات طويلة كانت أفغانستان نموذجا، لعله الأشد عنفا، لشعب مسلم يعانى الظلم والعنف والجوع وألوانا شتى من التخلف، كان حكم الطالبان الأشد قسوة وهكذا كان من قبله حكم الماركسيين الخاضعين لدعم القوات السوفييتية المحتلة.ثم جاء أجانب آخرون بحجة تحرير البلاد من الشيوعية وفى عهودهم شهدت أفغانستان عودة إلى أبشع نظم التخلف والقتل. كان حكم الأجانب لا يقل قسوة وعنفا عن حكم الطالبان وزاد عنهم فى الفساد والجريمة المنظمة وتجارة المخدرات. فى أفغانستان كما فى كل دول وسط آسيا وبالتحديد فى طاجيكستان وقيرغستان وأوزبكستان شعوب تعيش مقهورة بقوى الأمن والاستبداد السياسى، أخص بالذكر طاجيكستان حيث تدهورت الخدمات إلى درجة دفعت بالسكان، وأغلبهم مسلمون، إلى الهجرة بأعداد ضخمة، أما الفساد فاستمر متصاعدا ومتضخما بسبب المعونات الخارجية التى تدفقت لتسهيل مهمات قوات الاحتلال فى أفغانستان، وقد ثبت أن أغلبها ينفق قبل أن تصل إلى الأغراض والمؤسسات التى خصصت من أجلها، وتسربت أموال البنوك إلى مستثمرين من القطاع الخاص ينتمون بصلات الصداقة والقرابة لطبقة الحكام، مثلهم مثل الطبقات التجارية والمالية الصاعدة فى أكثرية دول العالم الإسلامى.

إلى الشرق من وسط آسيا أقلية إسلامية فى الصين التهبت مشاعرها بعد أن أدركت أن نصيبها من ثمار التحولات الاقتصادية كان ضئيلا على الرغم من أن الأرض التى تقيم عليها محشوة بالثروات الطبيعية والخير الوفير. أدركت أيضا أن نسبتها العددية تتضاءل تدريجيا تحت وقع التوعية الأيديولوجية والغزو البشرى المقبل من شرق الصين وجنوبها حيث تعيش أغلبية عرق الهان، وإلى الغرب من وسط آسيا يمر الشعب المسلم فى إيران بتجربة مثيرة للاهتمام والجدل معا. ففى أغلب الدول الإسلامية ينشط بشكل فائق مفكرون وسياسيون وأحزاب للدعوة إلى منح «المؤسسة الدينية» دور أكبر فى صنع السياسة وفى التشريع لحياة الناس والمجتمع سواء فى العلن أومن خلف الستائر.

حول هذه الدعوة لا يختلف القادة الدينيون الجدد فى العالم الإسلامى. ومع ذلك تثور ثائرة أغلبهم مع ثائرة خصومهم الليبراليين والعلمانيين وحوارىى الطبقات الحاكمة لأن رجال دين من الشيعة يحكمون فى إيران. ولإيران وضع آخر يجعلها كدولة إسلامية مصدر قلق ومحل اهتمام، فهناك إصرار فى طهران على أن يكون للمسلمين الإيرانيين قدرات نووية، مثلما أصبح للباكستانيين قدراتهم فى هذا المجال، ولا شك فى أن الغرب لن يهدأ له بال قبل أن يطمئن إلى إبطال مفعول هذه القدرات، إما بالهيمنة المطلقة على مؤسسات الدولة كما فعل فى باكستان، أو بشن حرب أو باغتيال علماء الذرة وفرض الحصار لمنع وصول تكنولوجيا وعلوم الذرة إلى بلد من بلاد المسلمين. وإن أراد حكام المسلمين إنفاق المال فى إقامة طاقة نووية سلمية فالغرب مستعد بشرط أن يحتفظ بحق الإقامة والتشغيل والتدمير عندما تحين الساعة.

وضع فى إيران شديد التفجر، ووضع فى العراق كارثى. مسلمون يقتلون مسلمين وأجانب يقتلون مسلمين، ومسلمون يريدون دولة كردية، ومسلمون يريدون دولة شيعية، ومسلمون يريدون دولة سنية، وقبائل تتحالف مع الاحتلال، وأخرى تدرب انتحاريين وتحميهم. وفى السياسة عراقيون مع إيران، وعراقيون مع تركيا، وعراقيون مع أمريكا، وعراقيون مع سوريا، وعراقيون مع السعودية ودول الخليج.

مسلمون فى كل مكان، وليس فى العراق فقط، ضد بعضهم البعض لا يجمعهم هدف ولا وطن، حتى عقيدتهم رفضوا الالتفاف حولها والاحتماء بظلها إلا باللسان والخطب والشعارات وعلى شاشات التلفزيون حيث يبدع مسلمون فى إلهاء أنفسهم وبقية المسلمين.

****

وإلى الشمال من بؤر التوتر الملتهبة فى إيران والعراق تشتعل منذ سنوات حروب الانفصال فى القوقاز الإسلامى. الشيشان فى ثورة دائمة ضد الروس، قياصرة وبلاشفة وما بعدهم، يسعون إلى الاستقلال عن موسكو أو إقامة حكم ذاتى يعترف بخصوصياتهم القومية وثقافتهم ولغاتهم وتقاليدهم. منذ عام أو أكثر وقع التصور لدى موسكو أن الأمور هدأت حتى أنها شجعت نوادى غربية على إقامة ندواتها فى الشيشان الهادئ والمستقر والمنتعش. ثم جاء الصيف، وعادت الأوضاع إلى تدهورها المعتاد.

عادت الانفجارات تهز المدن وسقط 463 قتيلا خلال شهرى يوليو وأغسطس وارتفع عدد الهجمات المسلحة من 81 إلى 452، والأخطر بين هذه التطورات الأخيرة هو امتداد لهيب الثورة الإسلامية فى الشيشان إلى جمهوريتى أنجوشتيا وداغستان الواقعتين تحت هيمنة روسيا. كانت موسكو قد اعتمدت على الرئيس كاديروف لفرض الاستقرار فى الشيشان باستخدام جميع وسائل العنف، ضد الثوار والمدنيين معا.

ويبدو أن القسوة التى استخدمها كاديروف جعلت الثوار يفتحون جبهات أخرى خارج الشيشان، ففى 23 يونيو الماضى قاموا بتفجير سيارة يونس بك رئيس جمهورية أنجوشتيا، وفى يوم 17 بالشهر الفائت انفجرت سيارة شحن محملة بالمتفجرات فى وسط حى مزدحم فى مديرة نازران عاصمة الجمهورية، فكان الانفجار بمثابة إعلان عن قرار الثوار المسلمين توسيع «الثورة القوقازية».

وفى داغستان، حيث لم توجد حتى عهد قريب دعوات انفصالية، ينتشر العنف الذى تمارسه الدولة وعصابات الجريمة المنظمة وشلل الفساد وتجار السوق السوداء وعائلات احتكار الاستيراد، أضف إلى هذا الوضع الملتهب الصراع العشائرى الدائر بين جماعة آفار التى ينتمى إليها الرئيس عالييف وجماعة دارجين التى ينتمى إليها الزعيم أميروف.

وفى جنوب القوقاز تتحرك قوى إسلامية أعلنت خصومتها مع الطبقة الحاكمة الآذرية التى لا تخفى ميولها العلمانية فى دولة أغلب سكانها من الشيعة. بدأت الأزمة بمواجهة بين الدولة والمنظمات الإسلامية الخيرية أو المدنية حين طالبتها بعدم التدخل فى السياسة. خشيت أن تستغل الأموال المتدفقة عليها من تيارات إسلامية فى دول عربية وإيران وتركيا لتثبيت أقدامها فى السياسة الداخلية، وفى الوقت نفسه بدأت تتصاعد صدامات فى العاصمة باكو ومناطق فى شمال البلاد بين جماعات سلفية متشددة ومجموعات شيعية متطرفة وجميعها ممول من دول إسلامية أخرى.

ومن القوقاز الجنوبى إلى الأناضول وبالتحديد إلى شرق تركيا حيث الحرب بين مسلمى تركيا ومسلمى الأكراد متواصلة منذ ربع قرن أو أكثر، وحيث لا يبدو أن نهاية قريبة لها أوشكت.

ولايزال الأتراك، بخاصة العسكريون، رافضين الاعتراف بأنهم فشلوا فى فرض الهزيمة على أكراد تركيا حتى بعد اعتقال أوجلان وإنهاك عناصر حزب العمال، ومازال أكراد تركيا غير معترفين بحق الدولة التركية فرض ثقافتها ولغتها وسياستها ونظام حكمها على الأقلية الكردية، وفى الأسبوع الماضى خرج أكراد مسلمون فى ديار بكر يعبرون عن صمودهم فى مواجهة قمع الحكومة التركية الإسلامية فى احتفالات صاخبة، فى الوقت نفسه يواصل الجيش التركى قصف أكراد شمال العراق واحتلال مواقع فيه بدون اعتراض من المجتمع الدولى، أو على الأقل من المجتمع الإسلامى إن صح وجود مثل هذا المجتمع. من ناحية أخرى يعيش مسلمون أتراك فى قبرص محرومين من حق المشاركة فى حكم وطنهم الذى احتكره القبارصة اليونانيون.

ومن تركيا، نقفز قفزة عالية نعبر بها العالم العربى دون أن نتوقف فيه. أحواله نعرفها ونعرف أنها لم تتغير إلى الأحسن على امتداد قرن أو ما يزيد ولعلها صارت أسوأ. هى بالفعل صارت أسوأ وتزداد تدهورا وأساليب الحكم تشتد قسوة وشعوبنا تعانى ألم الجوع ومهانة الفجوة بين الثروة والفقر. أما الاستبداد فلايزال ينمو ويرعى وبفضله تشعر شعوبنا بخزى الخضوع له. مكانتنا فى العالم تخبو ومكانة البرازيليين والصينيين والهنود تزهو وتتألق. لولا كوارثنا الإنسانية وأوضاعنا الاجتماعية والسياسية لانطفأ ما تبقى عندنا من شموع موقدة وما عرف العالم الخارجى بوجودنا، فى اليمن أزمة بل أزمات وفى لبنان أزمة وفى فلسطين حرب أهلية صامتة بين حكام مسلمين فى رام الله وحكام مسلمين فى غزة والعدو اليهودى متربص لهم جميعا وفى داخل كل دولة فى المشرق العربى الإسلامى توترات بين شعوب وحكومات تحكمها باسم الإسلام.

وفى الصحراء الغربية صراع مجمد اشتهر فى عالم الصراعات بأنه الصراع الذى يكلف استمراره أقل مما يكلف حله أو تسويته، تعددت الأطراف المستفيدة من وجوده باستثناء الشعب المقيم فى معسكرات تندوف وغيرها من المعسكرات. حكومة المغرب لا تقوى على الحل خوفا من شعبيتها فى الداخل وحكومة الجزائر لا تريد الحل خوفا على مكانتها بعد سنوات من حديث عن المبادئ والقيم.

وإلى الجنوب من العالم العربى وفى السودان تحديدا حيث يموت مسلمون جوعا وفقرا أو بالقتل العمد الجماعى والفردى والحرب الأهلية بين مسلمين ومسلمين وبين مسلمين وغير مسلمين، وحيث تتسابق دول من أقصى الشرق وأقصى الغرب للحصول على قضمة من كعكة النفط المكتشف والأرض البكر وحيث تعود لعبة مياه النيل منتعشة ومثيرة لخلافات لا حدود مشروعة لها، شرق أفريقيا تهددها حروب نشبت لتتوسع. ففى كينيا يبحثون الآن فكرة إقامة تحالف عسكرى جديد لحماية النظام الحاكم الجديد فى الصومال ووقف زحف «الشباب». المثير للانتباه هنا أن «الشباب الإسلامى» فى الصومال يبذلون أقصى ما فى وسعهم لإغراء كينيا للتدخل فى شئون الصومال.

التاريخ يعيد نفسه، ففى عام 2006 تردد أن جماعات إسلامية مسلحة فى الصومال سعت لدخول أثيوبيا طرفا فى الحرب الأهلية أملا فى أن يؤدى هذا التدخل إلى تمرد إسلامى داخل أثيوبيا وبخاصة فى إقليم الأوجادين، وهو ما تحقق جزئيا على الأقل. إن دخول كينيا فى الشهور القادمة طرفا فى حرب الصومال سيؤدى كليا أو جزئيا، حسب رأى الشباب، إلى امتداد لهيب هذه الحرب إلى أراضى كينيا الإسلامية، وفى تصورى أنه لولا الوجود الأجنبى المكثف فى جيبوتى لوقع تطور مماثل للتطور المستهدف فى كل من كينيا وأثيوبيا.

وعلى الناحية الأخرى من السودان يستعد صندوق البارود فى شرقى تشاد لمزيد من الانفجارات. هناك يتوافر كل ما يمكن أن يساعد فى إقامة الفوضى والقتل والنهب. وهناك وقع السباق بين حسين حبرى وإدريس ديبى على كسب نفوذ القبائل باستخدام سياسة فرق تسد التى ترجمت نفسها فى حرب قبلية متواصلة وفتنة عرقية. هناك فى هذه المنطقة فقر مدقع ونضوب فى الموارد وعصابات جريمة وقطاع طرق وحروب مياه بين رعاة البقر والفلاحين، وهناك قتل وتشريد متبادل بين الزغاوة ودار تاما. وأسلحة تتدفق لمواجهة الجنجاويد وهم جماعات إسلامية مسلحة قادمة من دارفور، وأسلحة أخرى لقبائل متمردة يجرى تدريبها لصالح السودان وللإضرار باستقرار حكومة نجامينا، هؤلاء مسلمون وأولئك مسلمون. كلهم مسلمون.

وعلى بعد بعيد، على شاطئ الأطلسى تغلى بالغضب والتمرد وتزدحم بالتنظيمات السرية الوليدة مناطق شاسعة فى نيجيريا، ويبدو أن تمرد بورك حرام والوحشية التى عومل بها أعضاء التنظيم الإسلامى من التطورات الكاشفة التى تنبئ باتساع نطاق الفوضى والعنف فى أنحاء أخرى من غرب أفريقيا امتدادا من موريتانيا فى الشمال ومرورا بثورة شعب الطوارق فى مالى ودول أخرى وصولا إلى دول وشعوب تعيش على بحيرات نفط شاسعة تحت الأرض وفى المياه القريبة من القارة.

****


أغلب الظن أن جملة من الظروف والعناصر اجتمعت خلال السنوات الأخيرة لترسم على خريطة العالم هذا العدد الهائل من بؤر تعلن عن حالة « احتقان إسلامى» شديدة.

لم يعد مقبولا أو كافيا القول بأن أطروحة صدام الحضارات لاتزال معبرة أصدق تعبير عن هذه الحال أو مؤذنة بتفاقمها، أو القول بإن الحرب ضد الإرهاب، التى تحولت فى مرحلة من مراحلها إلى حرب ضد الإسلام، أو ربما بدأت وانتهت حربا ضد الإسلام هى التفسير والتبرير لما آلت آلية أحوال المسلمين. وليس ممكن أو كافيا الاعتداد بحال الفقر الذى يعشش فى مجتمعات إسلامية عديدة وبخاصة فى بنجلاديش والصومال والسودان وباكستان ومعظم أنحاء العالم العربى، ونحمله المسئولية عن التوتر الشديد فى العلاقات بين المسلمين وبعضهم البعض فى الدولة الواحدة، وبين المسلمين فى هذه المجتمعات وغيرهم من «المواطنين» وبين مسلمى هذه الدول ومسلمى دول أخرى مجاورة. وليس مقنعا بالدرجة المناسبة الإدعاء بأن التحول إلى اقتصاد السوق أو تحرير الاقتصاديات سبب جوهرى فى هذه الفوضى الشاملة فى العالم الإسلامى، بحجة أن الاتجاه إلى اليمين فى الاقتصاد يسحب معه فى الاتجاه ذاته السياسة والتشدد الدينى والانقسامات الطائفية والمشاعر العنصرية. يعتقد أصحاب هذا الرأى أن اليمين يتمتع بقوة جذب هائلة تفوق قوة جذب اليسار باعتبار أن آفاق اليمين لا نهائية على عكس آفاق اليسار المحدودة والواضحة والنهائية.

****

صحيح أن معظم البؤر متفجرة فى دول ومجتمعات خاضعة لدرجة عظمى من القهر السياسى وحكم أجهزة الأمن والرجل الفرد والحزب الواحد والعائلة الواحدة، ولكن الصحيح أيضا أن بؤرا كثيرة متفجرة فى «دول» ومجتمعات تفتقر فى الأساس إلى حكومة ومؤسسات حكم ولكن تهيمن فيها ثقافة الاستبداد التى يقال عنها فى الفكر السياسى الغربى إنها تحدد سلوكيات المسلمين وعاداتهم وعلاقاتهم ببعض البعض وبالغير. لم يعد مقبولا الركون إلى فكرة المؤامرة الغربية والصهيونية أو الهجمة من قوى فى الغرب تعتقد أن الإسلام زاحف باكتساح فى أوروبا وأفريقيا، أو الادعاء بأن العولمة أضعفت سلطة الدولة فخرجت مختلف القوى الدينية لتحتل مكان الدولة وتمارس نفوذها وسلطاتها، ولا الادعاء بالعكس كالقول بإن بانحسار العولمة نشط الدولة فعادت تسلب من كل الأفراد والتيارات والانتماءات حقوقها ومصادر قوتها وتصفى مختلف قوى المجتمع المدنى، فتمردت المجتمعات وسادت الفوضى بدلا من أن يحل الاستقرار والانضباط.

****

المؤكد، أيا كانت الأسباب، أن بؤر التوتر فى العالم الإسلامى صارت بعددها المتزايد وأخطارها المتفاقمة تشكل ظاهرة لا يمكن، ولا يجوز، إغفالها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved