ليبيا تعـود إلى الوصاية الدولية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 8 سبتمبر 2011 - 9:00 ص بتوقيت القاهرة

كتبت هنا بعد أسابيع من نشوب الثورة عن المفاجأة التى أذهلتنا،متحدثين وناشطين ومراقبين إعلاميين وسياسيين، حين هبط على مصر أفراد تابعون للأمم المتحدة فى القاهرة ومعهم تعليمات من نيويورك بسرعة عقد اتفاقات مع الجهة التى تولت مسئولية الحكم فى مصر.

 

عرض هؤلاء الأفراد، وأغلبهم تابع مباشرة، أو مفوض من قبل، الأمين العام للأمم المتحدة تقديم خبراتهم فى مجال إعادة «بناء الدولة» ديمقراطيا واقتصاديا وإداريا. حدث، فيما أذكر، هياج وصدرت اتهامات بأن التسريبات للإعلام عن هؤلاء الأفراد ومهماتهم فى مصر غير دقيقة وخرجت أصوات تندد بالهجمة الأجنبية على مصر التى تسعى، ولو بنية طيبة، لتكون مصر المستقبل فى الشكل والموضوع تماما كما تريد أن تراها دول أو عملاء لدول أو لمنظمات دولية.

 

تطور النقاش حول أهمية دور القوى الخارجية وأغراضها فى مرحلة رسم خريطة جديدة لمصر، وتسرب إلى قنوات أخرى مثل قناة التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى ومثل قناة المعونات التى تعودت أن تقدمها المؤسسات الدولية، وهى المعونات التى ساهمت فى تراجع مكانة مصر الإقليمية وأهدرت سمعة سياستها الخارجية.

 

●●●

 

قبل أيام قليلة سرب أحد الصحفيين وثيقة أعدها المستر إيان مارتين، أحد كبار مستشارى الأمين العام للأمم المتحدة، فى شأن إعادة بناء ليبيا. تقول الوثيقة بصراحة ووضوح إن قرار مجلس الأمن القاضى باتخاذ حلف الناتو ما يلزم لحماية المدنيين فى ليبيا سوف يبقى سارى المفعول بعد سقوط نظام القذافى وقيام نظام جديد.

 

 بمعنى آخر تقرر الوثيقة أمرا متعارفا عليه فى دوائر الأمم المتحدة وهو أن حلف الأطلسى سوف يواصل مباشرة عددا من المسئوليات (مقدمة الوثيقة الفقرة رقم 8). ويستبعد التقرير تماما أى دور للاتحاد الأفريقى، بل ويشير إلى أن الثوار يتفادون فى خطبهم ترديد عبارة أن ليبيا جزء من أفريقيا.

 

ويحذر تقرير الخبير البريطانى من وسائط الإعلام غير الحكومية فى الشرق الأوسط التى يمكنها أن تحرك الرأ ى العام نحو توجهات غير تلك التى تسعى «المنظومة» الدولية إلى جر ليبيا إليها. ويذيع التقرير أسرارا تتعلق بالعلاقات بين أجهزة الأمم المتحدة المتنافسة، أو المتصارعة، على ممارسة دور فى ليبيا، فيقول السيد مارتن مثلا إنه استشار عددا من هذه الأجهزة خلال إعداد التقرير وأنه لاحظ أن كلا من جهاز مكافحة المخدرات وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية «UNDP»، ومنظمة الهجرة الدولية وصندوق النقد الدولى، وكلها وغيرها أبدت رغبة فى أن يكون لها دور.

 

وكما تسببت هجمة المنظمة الدولية على مصر فى اعقاب نشوب الثورة فى هرج وغضب، حدث تطور من نوع آخر، وإن أوسع مدى، حين سربت مصادر داخل المنظمة الدولية وثيقة إيان مارتين قبل أن يعتمدها الأمين العام للأمم المتحدة، ويدور النقاش حاليا فى وسائل الإعلام الأمريكية حول مصداقية الأمين العام والجهاز المثير للجدل المختص بالشئون السياسية والتابع مباشرة للأمين العام، وإن كان يحق له التدخل إلى هذا الحد فى شئون الدول الأعضاء تحت عنوان المساهمة فى حل أزمات ما بعد الحروب والنزاعات الداخلية، وهو الجهاز نفسه الذى أثار أزمة سياسية وإعلامية فى مصر وما زال يثير أسئلة كثيرة من جانب وفود الدول الأعضاء فى المنظمة.

 

يدافع مسئولون فى الأمم المتحدة بالقول إن المكلفين بإعداد التقرير اتصلوا بأعضاء فى المجلس الانتقالى الليبى فى قطر وإن إيان مارتين نفسه توجه إلى الدوحة وناقش هناك مع المسئولين الليبيين والقطريين اقتراحاته بالنسبة لمستقبل ليبيا حسب رؤيته ورؤية إدارة الشئون السياسية التابعة لمكتب الأمين العام للأمم المتحدة، بينما تؤكد التسريبات الإعلامية أن مارتين لم يقابل كبار المسئولين فى المجلس الانتقالى فى الدوحة إلا يوم 28 أغسطس أى بعد أن كان قد قدم تقريره إلى الأمين العام يوم 22 أغسطس لاعتماده. بمعنى آخر كان التقرير جاهزا لتوقيع الأمين العام قبل أن يؤخذ رأى وطلبات ورغبات أصحاب الشأن من ممثلى الشعب الليبى.

 

يوصى التقرير بإقامة قوة لحفظ السلام فى حال تدهورت الأحوال الأمنية وإن كان يعترف بأن قرار مجلس الأمن يقتصر على حماية المدنيين، وبالتالى قد يحتاج الأمر إلى إطالة مهمة الناتو. ويقترح التقرير إقامة جهاز شرطة أجنبية مكونة من 78 ضابطا يمكن زيادتهم إلى 190 خلال تسعين يوما. ويحذر التقرير ضد عمليات تطهير فى الجهاز الحكومى وينصح بإجراء انتخابات لمجلس وطنى انتقالى خلال ستة إلى تسعة اشهر وأن تمثل فيه الأقليات والنساء. ويقدر حاجة عملية الانتخابات الى ما لا يقل عن أربعين ألف شخص لتسجيل الناخبين يجب تجنيدهم وتدريبهم فورا.

 

 ويعتقد السيد مارتين أن الحاجة ماسة الى إنشاء قوة حماية مؤقتة تتولى حراسة المراقبين غير المسلحين، ويضيف أنه اتصل فعلا بدولتين بغرض الاستعداد لتشكيل هذه القوة. يدعم هذا الرأى الكاتب المعروف رتشارد هاس رئيس المجلس الأمريكى للشئون الخارجية فيقول إنه لا توجد فى ليبيا مؤسسة أو جماعة قادرة على أن تحل محل عائلة القذافى، ولذلك لا بد من الاسراع فى تشكيل قوة دولية، ويضيف «أن تزيح ملكا وتقضى على نظامه شىء وأن تقيم نظاما محله شىء آخر تماما».

 

ويعتقد هاس أن أوباما يجب أن يعيد النظر فى تأكيده أن قدما أمريكية لن تطأ أرض ليبيا.. «فقيادة أمريكا صعب أن تثبت نفسها بدون حضور على الأرض. ويتصور السيد هاس الذى تولى ذات يوم إدارة التخطيط بالخارجية الأمريكية، إن الحد الأدنى للتدخل هو أن يكون الغرب مستعدا لإرسال مئات من المستشارين العسكريين أما الحد الأقصى فقوة عسكرية تتشكل من عدة ألوف من الجنود.

 

●●●

 

توقفت طويلا أمام الصورة الاحتفالية التى نشرت للزعماء الذين حضروا مؤتمر أصدقاء ليبيا الذى انعقد فى باريس. توقفت فى الحقيقة أمام ابتساماتهم التى تارة أراها ابتسامات «دراكولية» بشعة وجشعة، وتارة أخرى أراها «بابا نويلية» حنونة وناعمة. لا نستبعد، ولا يجوز أن نستبعد، النوايا الصافية والطاهرة والنقية، خاصة تلك المتعلقة بالرغبة فى أن تنتشر الديمقراطية فى أرجاء المنطقة العربية، وأن يعم العدل، وأن تعود الأحوال بأسرع ما يمكن إلى الهدوء والاستقرار.

ولكن لا نستبعد، ولا يجوز أن نستبعد، النوايا المتعلقة بالمصالح، وهذه النوايا لا توصف بأنها غير طاهرة وغير صافية وغير نقية، لكنها أوصاف قد تنطبق على بعض أدواتها وأساليبها .

 

وجدنا ذاكرتنا تعود بنا إلى صور فوتوغرافية «مثيرة» أذكر منها تحديدا صورة طونى بلير فى خيمة القذافى فى ليبيا وهما متعانقان وصورة برلسكونى منحنيا يكاد يقبل يد القذافى، أو لعله فعل فعلا، وصورة ساركوزى وهو يشب على أطراف أصابعه ليحتضن معمر ويقبل وجنتيه. ثم جاءت الوثائق المتربة من جهاز المخابرات الليبية التى كشفت عن وجوه أخرى فى علاقات نظام معمر القذافى ومديره السيد كوسة بالمخابرات الأمريكية والبريطانية.

 

كان واضحا أن الغرب فى هذه السنوات الأخيرة لم يدع فرصة تمر دون أن يثبت فيها للقذافى مدى حبه وتقديره له. وأحيانا بالغ الغرب وبسخف شديد حين ساعد ليبيا ليحتل مقعدا متميزا فى منظمة حقوق الإنسان، ولم نسمع عن ضغوط أو إيحاءات تحث القذافى على إدخال إصلاحات. فجأة ومع بشائر الثورة ظهر فى بنغازى الفيلسوف الفرنسى المعروف بتعصبه للصهيونية وإسرائيل وساركوزى قادما من ميدان التحرير فى القاهرة وقد اكتملت فى رأسه فكرة تحريك فرنسا لصالح الثوار.

 

●●●

 

ليبيا حلم أحلام الغرب الساعى الى إعادة بناء دول بعينها. ثورتها تمثل الاختبار الأساسى لقدرة الحكومات الغربية على صياغة الدولة النموذج فى العالم العربى، وتطورات الأمور فيها ومن حولها تثير لدى الكثيرين فى الغرب ولدينا تعليقات وأسئلة أورد منها على سبيل المثال:

 

أولا: يقال الآن إن سير التطورات فى ليبيا قد يصبح المثال الأمثل للتدخل الأمريكى فى الخارج والذى يجب أن يتبناه الفكر الاستراتيجى والعسكرى الأمريكى فى المستقبل. يقوم هذا النموذج أساسا على مبدأ «القيادة من الخلف»، أى أن تترك أمريكا للأطلسى، أو دول بعينها مهمة التدخل العسكرى وفقا لإملاءات أمريكية أو تحت إشراف واشنطن.

ثانيا: إن الثورة فى ليبيا، وليست تونس أو الجزائر أو اليمن، هى التى أطلقت شرارة عملية «التدوير الثانى للمصالح الغربية فى العالم العربى». وقع التدوير الأول عندما قامت حكومة بريطانيا بإعادة هيكلة محمياتها فى الجزيرة العربية وأقامت حكاما جددا قبل أن تعلن انسحابها من شرق السويس.

 

المنظر الحالى لا يختلف كثيرا إلا فى العمق والاتساع، فالسباق على ما يسمى بالكعكة الليبية مستعر وإعادة التوزيع أو التشطير قد يتكرر على النمط الذى حدث فى العراق عندما طردت قوات الاحتلال المصالح الفرنسية مثل شركة توتال. المؤكد فيما يبدو هو أن فرنسا لن تقنع فى ليبيا الجديدة بدور الدولة المدعوة للحصول على نصيب وقد تفلح فى وضع تعقيدات أمام الصين وروسيا وفى وجه مصالح عربية معينة وربما تركيا.

 

ثالثا: لأول مرة تلعب دولة خليجية صغيرة دورا رئيسا فى عملية تدوير المصالح الاقتصادية الدولية فى دولة من الدول النامية. يتحدثون فى باريس عن نفوذ كبير لدولة قطر تستخدمه فى التأثير على عملية إعادة توزيع حقوق الانتفاع من لثورة الليبية.

 

 هنا أيضا تخضع القيادة السياسية فى قطر للاختبار ذاته، فالتدخل القطرى لدعم ثورات ضد أنظمة حكم عربية قد يتجاوز بدون وعى الإمكانات السياسية الملموسة لدولة قطر.

 

وعلى كل حال لا يقنعنا ما تردده صحف اجنبية (سيميون كير فى فاينانشيال تايمز) عن أن وراء حماسة قطر للتدخل فى ليبيا حنين الشيخة موزة لفترة طفولتها فى بنغازى. أكثر إقناعا ربما القول بأن قطر ربما وجدت ضرورة فى تنويع مصادر قوتها النعمة لتخفف من اعتمادها على مصدر واحد وهو قناة الجزيرة.

 

رابعا: لا شك أن لثورة تونس الفضل الكبير فى تسريع نشوب ثورات عربية أخرى، ومنها ثورة ليبيا، ومع ذلك تحصل الثورة الليبية على اهتمام يفوق ما تحصل عليه الثورات التونسية والمصرية وحتى السورية.

 

نكتشف الآن أن حلف الأطلسى لديه وثيقة أعدت منذ الأيام الأولى للثورة الليبية وعرفت بوثيقة بروكسيل، ثم اكتشفنا أن أطرافا كثيرة تدخلت منذ اليوم الأول، وأن وثيقة أخرى كانت تعد فى نيويورك وتقرر أن حلف الأطلسى لن يغادر ليبيا لسنوات طويلة قادمة، ونقرأ أن جهات ألمانية غاضبة لأن الأمم المتحدة استبعدت خبيرا ألمانيا فى شئون بناء الأمم. ويتردد أن الاهتمام بليبيا يعود إلى أنها «الدولة الأبسط تركيبا بين الدول العربية الثائرة»، بمعنى أن ليبيا نشأت فى الأصل دولة ضعيفة المؤسسات ثم جاءت ثورة القذافى الثقافية فأطاحت بما نشأ منها فى العهد الملكى وعهد الوصاية. لذلك ربما شعرت الدول الغربية بأن مهمة بناء دولة جديدة بمقاييس غربية أسهل فى ليبيا من بناء دولة جديدة فى مصر أو تونس حيث المؤسسات أقدم وأقوى.

 

●●●

 

التزاحم الغربى على بناء دولة جديدة فى ليبيا على النمط الغربى يعيد إلى الذاكرة مفهوم الوصاية الدولية وممارساتها. تغيرت العناوين والعهود والقصد واحد. هكذا تكون ليبيا الدولة الوحيدة فى العالم التى خرجت من عهد الوصاية لتعود إليه بعد ستين عاما من الاستقلال. مؤشرات غير قليلة تشير فى اتجاه أنها لن تبقى وحيدة لمدة طويلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved