كثير من الحروب بين الأخوة.. كثير من «الدول» المتزاحمة أرضًا وجوًا

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 7 أكتوبر 2015 - 7:30 ص بتوقيت القاهرة

تبدى المشهد العربى من على منبر الأمم المتحدة، أو فى الكواليس الأميركية أساسا ثم الدولية عموما، بائسا بل مهينا فى بعض جوانبه. فقد حمل الملوك والرؤساء العرب، أو من ينوب عنهم، معاركهم الذاتية والقبلية والعربية ـ العربية وكذلك خصوماتهم ومعاركهم الشخصية والسياسية إلى هذا المنتدى الدولى فنشروا فضائحنا على مستوى العالم اجمع، انطلاقا من نيويورك.
لقد حفلت الجلسات العلنية للجمعية العامة، وكذلك كواليس المسارة والصفقات، بالكثير من الفضائح والوقائع المهينة التى تشهد على كثير من الحروب بين القليل المتبقى من العرب. وحتى هذا «القليل» ليس موحدا، لا فى مواقفه ولا فى الأهداف المتوخاة منها... بل يمكن القول ان الحروب العربية ـ العربية على الأرض هنا قد وجدت فى الملتقى الدولى مساحة أوسع للمعارك وتحقيق «الانتصارات الوهمية» على بعضهم البعض.
لم يكن العرب موحدين، ولو فى الخطاب الرسمى، حتى فى قضية فلسطين.
بل إن «العرب» لم يكونوا «عربا»: كانوا مجموعة من الدول المتخاصمة، المتنابذة، الضعيفة والمستضعفة، لا تجمع فى ما بينها ولو قضية مقدسة مثل فلسطين، ولا يشد بعضهم إلى بعض «عدو قومى» كإسرائيل، أو عدو مستجد خرج من بين ظهرانيهم خاطفا راية الإسلام بعد إدانة «العروبة» كبدعة وضلالة، داعيا إلى إعادة «الخلافة» عبر الصواريخ قاتلة الأطفال، مدمرة ما تبقى من دول تستظل الراية العربية، مغتالا الماضى والحاضر والمستقبل عبر ذبح المؤمنين بالسكاكين امام عيون العالم وبآخر ما ابتكره العلم من وسائل التواصل.
ولقد كشف بؤس واقعهم ذلك الاحتفال الفولكلورى برفع علم فلسطين على واحدة من سوارى المبنى الزجاجى الأزرق للأمم المتحدة: علم ولا دولة، وتظاهرة شارك فيها بعض الموقعين على خريطة سايكس ـ بيكو للمشرق العربى والتى مزقت وحدته التاريخية والجغرافية والبشرية تمهيدا لإقامة دولة إسرائيل فوق أرض فلسطين.
لقد احتلت قضية فلسطين، حتى الماضى القريب، الضمير العالمى، وحركت دولا وقوى غير عربية، فضلا عن «العرب» الذين كانوا يحرصون على الشكل ـ فيظهرون ـ اقله فى الصورة ـ متضامنين حول «قضيتهم المقدسة» التى أخرجت من دائرة الفعل السياسى وان بقيت ثابتة فى الوجدان.
على ان الأمم المتحدة قد شهدت تظاهرة مسلحة لدول الخليج العربى، إذ دخلت تحت القيادة السعودية رافعة اعلام الحرب على اليمن، التى لا تصرفها كلية عن حربها على سوريا، وكلتاهما تصبان ـ بزعم الرياض ـ فى خانة الحرب على إيران وتقفزان من فوق «فلسطين»... فإذا ما تم استذكار العراق الغارق فى دماء أبنائه وهو يحاول ترميم دولته التى أنهكها الفساد بعد الاحتلال الأميركى، ثم حضرت جحافل «داعش» لتفاقم من خطورة الانشقاقات فى الداخل بأبعادها الطائفية والمذهبية والعرقية.
لقد وجد السعوديون ضالتهم، مرة أخرى، لتبرير المشاركة فى حصار العراق بالذريعة «الفارسية» ذاتها التى تضيف إلى الطائفية اختلاف الأعراق.

***
أما لبنان الذى يكاد يكون بلا دولة، فقد وقف رئيس حكومته خلف المنبر الأممى رافعا صورة الطفل الكردى السورى أو العراقى، لا فرق، الذى لفظته أمواج التشرد بحرا امام شواطئ أوروبا، ليشكو الفراغ فى رأس دولته مما يشل حركتها، مع التحذير من مخاطر النازحين السوريين إلى أرضه والذين باتوا الآن يشكلون نحو الربع من مجموع مواطنيه... وكاد تمام سلام، الذى شاء له حظه ان يجىء إلى دست الحكم فى فترة فراغ فى قمة السلطة وبطالة كلية للمجلس النيابى وأزمات معيشية حادة تهدد الوطن الصغير الذى كان يطمئن ـ عادة ـ إلى رعاية استثنائية توفرها الدول الكبرى التى تبدو الآن مشغولة عنه بهموم عربية ثقيلة تتقدم بها عليه.
وأما سوريا التى انغمست فى الحرب فيها وعليها دول كثيرة، فقد حضرت لتشكو التآمر الدولى معلنة موافقتها على مشاركة الطيران الحربى الروسى فى جهدها لمقاومة اجتياحات «داعش» وسائر المنظمات الإرهابية، خصوصا وقد اقتطع بعضها، و«داعش» بالتحديد، نحو نصف الأرض السورية، ليضمها إلى «دولته» التى تشمل العراق والشام، كما تدل تسميتها... وكانت صورة القيصر الروسى بوتين تظلل المندوب السورى وهو ينتقل من خانة الشكوى والتذمر من التخلى إلى خانة الهجوم على مَن يساند الإرهاب الدولى بقيادة الولايات المتحدة ومعظم الغرب الأوروبى.
فأما مصر فمشغولة بهمومها الثقيلة، وأخطرها اقتصادى وتوفير الحلول الجدية للنهوض والتحرر من تركة الديون والعجز، ومن ثم يتبدى الخطر الأمنى، خصوصا وأن «داعش» وعصابات مسلحة أخرى تنافسه فى رفع راية الجهاد الإسلامى، باشرت تحركها القاتل فى بعض انحاء الداخل، فضلا عن الجبهة المفتوحة بعد فى صحراء سيناء وعلى الشاطئ الممتد إلى غزة عبر العريش ورفح.
على هذا فقد كانت معظم لقاءات الرئيس المصرى والوفد المرافق له اقتصادية الطابع، مع الاكتفاء بتحديد بعض المواقف المبدئية تجاه القضايا العربية المتفجرة، لا سيما سوريا، وأبرزها ضرورة عدم القطع مع النظام القائم فى دمشق طالما استمرت بل وتفاقمت الحرب ضد المنظمات الإرهابية.
أما ليبيا البلادولة فلا يزال المندوب الأممى يحاول عبثا التوفيق بين المنظمات المختلفة، فى محاولة للوصول إلى تفاهم حول حكومة وحدة وطنية، بينما «داعش» يزيد من مساحة اجتياحاته وضحايا هجماته، خصوصا وقد تعززت قوته بمناصرين يأتونه من بعض دول افريقيا السوداء..
مع الجزائر وعنها لا مجال للحديث عن دور أو مبادرة أو مسعى... فبلاد المليون شهيد غارقة فى مشكلاتها الداخلية، وأبرزها صراع الأقوياء على وراثة الرئيس المريض عبدالعزيز بوتفليقه. ومفهوم أن هذا الصراع يدور بين جنرالات الجيش الذى يعتبر بمثابة «الحزب الحاكم».. وكثير من هؤلاء يحاولون الحصول على تزكية من «الرئيس» قبل غيابه، فى حين أن آخرين يتربصون للقفز إلى السلطة عشية هذا الغياب ومع افتراضهم عجز «الرئيس» عن اتخاذ القرار بالمواجهة اعتمادا على خصومهم.
أما فى المغرب فتتابع «اللعبة الديموقراطية» مسيرتها مظللة بطيف «أمير المؤمنين» الذى يجرى الصراع حول من هو الأقرب إليه والمعتمد منه، لا سيما وان «الإسلاميين» يحرزون المزيد من التقدم عبر اللعبة الديموقراطية بعد تشرذم أحزاب النضال الوطنى من أجل التحرر والعدالة الاجتماعية، وهو فى شغل شاغل عن هموم المشرق العربى، وان حرص دائما على توكيد العلاقة مع الأنظمة الملكية والاماراتية، التى هى بالمصادفة التاريخية، الأغنى بين الدول العربية... ثم ان بلاد المغرب تشكل أرض الراحة والاستجمام بالنسبة للملوك والأمراء والشيوخ من حكام البلاد المذهبة، وبالتالى فلا مانع من ان يشارك المغرب فى الحرب السعودية على اليمن ولو بطائرة حربية... ولا بأس حتى ان سقطت هذه الطائرة فى الطلعة الأولى... فالتعويض سيكون مجزيا بطبيعة الحال.

* * *
واضح ان الوطن العربى، مشرقا ومغربا، يعيش فى قلب المحنة: دوله تحترب وتسيل الدماء فتغطى أرضه، ومعظمها لأبنائه، وبأيدى السلطات القائمة بالأمر فى حربها مع منظمات الإرهاب الدولى التى تتلطى تحت الشعار الإسلامى... وينفتح الباب على مصراعيه للتدخل الدولى، كما لم يحدث فى أى يوم، مستدرجا حتى دولة مثل روسيا كان الظن انها قد خرجت من ميدان العمل فى الخارج، كما فى عهد الاتحاد السوفييتى، إلى التدخل ـ أقله فى الجو، وربما فى البحر ـ فى الحرب فى سوريا وعليها، وارسال اسطول من القاذفات الجبارة وأحدث المدمرات، للتأكيد انها «جاءت لتبقى»، أقله طالما استمرت الحاجة إليها... مع استعداد لمد هذا الوجود، بشكل أو بآخر، إلى العراق، طالما أن «الجبهة واحدة، والعدو الإرهابى ممثلا بداعش وما شابهه واحد».
وبالطبع فإن هذا التطور الميدانى يشكل ذروة لانقلاب سياسى، فى التوازنات الدولية، لا سيما فى منطقتنا العربية المفتوحة الآن لكل من يريد إثبات حضوره ونفوذه وقدرته على التأثير، ومن ثم المطالبة بحصته من «الكعكة»، وأساسا فى المصالح الهائلة...
ومن أسف فإن الملوك والرؤساء العرب، من دون أن ننسى الشيوخ، لا يفعلون إلا توسيع الأبواب وتوفير المبررات لتدخل «الدول»، وصراعها على المصالح الهائلة التى تتضمنها هذه الأرض العربية بموقعها ثم بثرواتها الهائلة التى لا ينتفع بها أهلها بقدر ما يستحقون.. بل وما يحتاجون.
لا إجماع، ولا اتفاق ولو على الحد الأدنى... بل ان الوطن العربى فى هذه اللحظة مجموعة من الجبهات المشتعلة بين دوله، مما يوسع المساحة امام التدخل الدولى، الذى لم يعد قاصرا على جبهة واحدة ممثلة بالهيمنة الأميركية شبه الكاملة (ومن ضمنها وعلى رأس قائمة المستفيدين منها إسرائيل) بل ها هم الروس يكرسون وجودهم الفاعل ويعززونه عسكريا، متعاونين إلى حد يقرب التحالف مع الإيرانيين.
أما حكام العرب فيهربون من هويتهم إلى الحروب ضد بعضهم البعض... منهم من يستقوى بثرواته ومن يعتمد على موقعه الاستراتيجى، بينما شعوبهم تغرق فى فقرها فى الداخل أو فى بحور الظلام فى رحلة التيه إلى الخارج.. أى خارج يقبلهم، مع الاهانات التى تزيد فى إيلامهم، باعتبارهم هاربين من أوطانهم التى اغتيلت دولها أمام عيونهم التى أعماها الدم عن تبين الطريق إلى المستقبل.. أى مستقبل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved