الجيل الذى حارب

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 7 أكتوبر 2018 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

رغم أن أجيالا مصرية متعاقبة حملت السلاح داخل إطار المؤسسة العسكرية الوطنية، إلا أن جيلا واحدا من بينهم جميعا يستحق أن يوصف بـ«جيل الحرب».
الجيل يقاس بالتجربة الفكرية والسياسية والوجدانية والنظرة إلى الحياة والقيم الأساسية، التى تحكم توجهاته ومخيلته قبل أعداد السنين المسجلة على شهادات الميلاد.
باتساع مفهوم الجيل كان هناك جناحان رئيسيان فى قصة حرب أكتوبر.
الأول قاتل بفواتير الدم على الجبهة الأمامية حتى يمكن لهذا البلد أن يحرر أرضه المحتلة ويرفع رأسه من جديد.
والثانى دعا بفوائض الغضب فى الجامعات المصرية إلى تعبئة الموارد العامة وراء المقاتلين وانتقد الأداء الداخلى، الذى لا يتسق مع تضحيات الدماء.
كانت الحرب عنصرا جوهريا فى تشكيل وعى جيل السبعينيات السياسى والاجتماعى والثقافى، أكثر مما فعلت تجارب الحروب السابقة فى الأجيال الأخرى.
كانت تجربة الحرب، التى امتدت منذ يونيو (١٩٦٧) إلى أكتوبر (١٩٧٣) الوعاء الحى لصهره، وتشكيل معنى جديد داخله للمواطنة والوطنية.
فى خنادق القتال نضجت رؤى وأفكار وقيادات، وبرزت مواهب أدبية وفنية.
الحقيقة الرئيسية من هزيمة يونيو إلى نصر أكتوبر أن مصر كلها لا «جمال عبدالناصر» ولا «أنور السادات» صاحبة قرار الحرب الذى اتخذته تحت ظلال الهزيمة يومى (٩) و(١٠) يونيو (١٩٦٧).
أفضل ما قيل فى وصف بطولات أكتوبر أن الإنسان المصرى العادى هو بطل الحرب. غير أن بطل أكتوبر لم يكن من ناحية تدقيق المعانى والألفاظ إنسانا عاديا، بل جيلا كاملا صهرته تجربة القتال، وصاغت منه تجربة فريدة.
الفارق واضح بين نسبة النصر إلى الإنسان العادى المجرد، أو إلى صفات إيجابية مطلقة فى الشخصية المصرية، وبين نسبته إلى جيل بعينه، وإلى وعى بعينه، وإلى بنى ثقافية وسياسية ونفسية بعينها.
إنه الفارق بين المطلق والتاريخ.
أغلب الذين قاتلوا فى (١٩٧٣) بعد ست سنوات فى الخنادق، أو فى معسكرات التدريب، أو فى مهمات قتالية أثناء حرب الاستنزاف، من خريجى الجامعات المصرية، الذين أتاحت مجانية التعليم الفرصة أمامهم لاكتساب معارف العصر.
جيل الحرب هو نفسه جيل الثورة ومجانية التعليم والحق فى الثروة الوطنية.
فرضت ضرورات تحديث القوات المسلحة فى أعقاب الهزيمة دفع جيل بأكمله من خريجى الجامعات إلى صفوف القتال، للتعامل مع أحدث التقنيات العسكرية فى ذلك الوقت.
المأساوى فى قصة هذا الجيل أنه أرجأ طموحاته وحياته إلى ما بعد انتهاء الحرب، غير أنه عندما عاد من ميادين القتال، وجد أن ما قاتل من أجله قد تبدد، وأن عليه دفع ثمن سياسات الانفتاح الاقتصادى التى دشنت عام (١٩٧٤) من مستقبله الاجتماعى والإنسانى.
ثم أن يرى بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب سياسات التطبيع مع العدو الذى انتظر طويلا فى الخنادق أن يواجهه.
لم تعد إسرائيل عدونا التاريخى.
«هذا كذب.. أنا لا أعرف من أنتم، ولا من أين أتيتم.. إن ما أعرفه جيدا أن هذا البيت بيتى، وأن واجهته خمسون مترا بالتمام، وإذا كنت لم أفكر فى إعادة قياسه منذ زمن بعيد، فذلك لثقتى بأن الأرض لا يمكن أن تضمر بفعل الزمن».
كانت تلك نبوءة مبكرة فى منتصف السبعينيات تضمنتها مسرحية «محمود دياب» «الغرباء لا يشربون القهوة»، عن حجم ما سوف يحدث من تجريف لأى معان حاربت من أجلها مصر.
فى نبوءة ثانية استبق التطبيع مع إسرائيل بإعلان استحالته فى مسرحية «أرض لا تنبت الزهور».
لم يكن «السادات» قد زار الكنيست ولا وقعت اتفاقية «كامب ديفيد».
«إن الحب لا يقحم على قلوب الناس بزواج ملك من ملكة.. خذها حكمة من الزباء ولا تنسها أن أرضا ارتوت بالدم لا تنبت زهرة حب».
«كان هو الذى رأى» بتعبير الناقد المسرحى «محمد الروبى».
لم يكن «محمود دياب» يتنبأ بما قد يحدث من فراغ، حيث بدأت بعض المواقف والكتابات تدعو إلى تسوية ما تنهى الصراع الدامى وتدين السياسات التحررية التى اتبعتها مصر فى أوقات سابقة.
هناك فارق جوهرى على المستوى الوجدانى بين جيلين متعاقبين.
الذين عاشوا الحلم بعضهم لم يستطع أن يتحمل وطأة انكساره.
كان «صلاح جاهين» مثالا تراجيديا، فقد أصيب باكتئاب حاد.
والذين اكتسبوا وعيهم السياسى بعد الهزيمة رفضوها ونقدوا أسبابها ودفعوا فواتير الدم على جبهات القتال قبل أن يعودوا ليجدوا ثمارها قد ذهبت لغير أصحابها.
فى عام (١٩٦٨) أعلنت أجيال ما بعد الهزيمة عن حضورها فوق مسارح التاريخ، تطلب المشاركة السياسية، تؤكد إرادة القتال وتدعو إلى جبهة داخلية متماسكة لا تفسح مجالا للصوص المال العام والمتسلقين على أكتاف السلطة.
بقدر الموهبة الاستثنائية لـ«نجيب محفوظ» فى التقاط الشخصية الدرامية من قلب التحولات الاجتماعية بدا «زعتر النورى» فى «أهل القمة» تمثيلا من لحم ودم لبداية «عصر اللصوص».
بذات النظرة والتوجه أدى «نور الشريف» دورا آخر لما جرى بعد أن عاد المقاتلون من جبهات القتال، حيث نالت بقسوة الانقلابات الاجتماعية من حياة «حسن سلطان» فى «سواق الأتوبيس».
كان ذلك الشريط السينمائى وثيقة إدانة بلغة فنية لا ادعاء فيها لعصر كامل انقلبت فيه موازين القيم، وبدت الحالة الأخلاقية والاجتماعية فى انكشاف غير مسبوق.
بالقرب من هذه المنطقة المهجورة عرت أعمال سينمائية أخرى خيانة المثقفين، الذين تواطأوا على أية قيمة للعدل الاجتماعى مثل فيلم «البحث عن سيد مرزوق».
ضاعت معانى التضحية بالدم على جبهات القتال وانتصر الزاحفون بسطوة المال.
فيلم «كتيبة الإعدام» من تأليف «أسامة أنور عكاشة»، تعبير مباشر عن زواج الرأسمال الطفيلى مع خيانة دم الشهداء.
بالتعبير الفنى فإن التناقض وصل مداه.
وبالتعبير التاريخى فقد ولد جيل جديد من قلب تجربة الحرب وما جرى بعدها من تحولات وانقلابات ناقضت ما دفع ثمنه دما على جبهات القتال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved