صوت ولا طعم

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 7 نوفمبر 2012 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

علا صوت أغلب الناس فى مصر. علا صوت كبار رجال الدولة وقادة الجماعات الحاكمة وغيرهم من الغاضبين والمتوعدين، وعلا صوت أكثر مقدمى برا مج التوك شو وضيوفهم من نجوم الثورة وألمع المثقفين. وعلا صوت الشارع، أبواق سيارات وموتورات دراجات بخارية وصفارات سيارات إسعاف وشرطة تعوض بصوتها عجزها عن الحركة وسباب متبادل بين متحرشين ومتحرش بهن وصراخ معاونى سائقى السرفيس. أضيفت مؤخرا إلى هذه الغابة من الأصوات العالية أصوات مكبرات الصوت الجديدة المنصوبة فوق جميع مآذن الجمهورية.

 

 

يشكو أصدقاء من أنهم فقدوا القدرة على الاستمتاع بطعم ما يتناولون من طعام وشراب. بعض هؤلاء الأصدقاء كانوا من خيرة الذواقين الذين كنا نحتكم إليهم فى زمن كان لتناول الطعام والشراب طقوس ومبادئ وأحكام. يشكون ويسألون إن كان الزمن مسئولا عن فقدانهم هبة التذوق أم المسئول هو تدهور نوعية ما يتناولون ويتذوقون أم هو تلوث البيئة. جاءت الإجابة سريعة وحاسمة ولكن مفاجئة من خبير متخصص فى الحواس والعلاقات بينها. يقول إن الأصوات العالية عدو لدود لكافة الحواس وأهمها الشم والتذوق واللمس وفى مقدمها السمع طبعا.

 

 

عاد مكبر الصوت يذيع أذان صلاة الفجر، لم نعرف بعد، نحن سكان الحى، إن كان المكبر هو نفسه الذى كان يصدر أصواتا أخرى فى هيئة حشرجات تغطى على صوت المؤذن، وقد عاد بعد إصلاحه، أم أنه مكبر جديد لا يصدر أصواتا دخيلة، ولكنه بالتأكيد من نوع لا يعمل إلا عند أعلى طبقات الصوت.

 

 كنا، فى الحى الذى أعيش فيه منذ عقود، لا ننام إلا عندما تهدأ الأصوات البشعة التى تصدرها الدراجات البخارية، أى ابتداء من الرابعة صباحا وننام دقائق معدودة لنستيقظ على صوت مكبر يصدر حشرجة. الآن ننام دقائق معدودة لنستيقظ على مكبر يضخم صوت الأذان إلى مستوى غير إنسانى وغير إيمانى، يدعونا إلى الصلاة ويحثنا على الفلاح ومشاركة بقية الخلق فى العمل والإنتاج لنصرة قضايا الدين والمجتمع، بدون أخذ قسط ولو ضئيل من النوم.

 

 

 لم يصل إلى علمى أن علاقة قوية تقوم بين الصوت والمذاق. وصل مؤخرا. كان معلوما للكافة أن الأصوات العالية تحرم الناس من النوم وتعطل الانتاج وتشتت التفكير وقد تكون سببا فى الإصابة بأرق مزمن أو سببا فى الجنون. لكن لم أعلم أن الأصوات العالية تؤثر سلبا فى قدرة الإنسان على الاستمتاع بطعم ما يتناول من طعام وشراب. أقنعنى صديقى الخبير فى هذا الشأن حين راح يذكرنى بالطعام الفاخر شكلا وتقديما الذى كان يقدم لنا خلال رحلاتنا الجوية، وكيف أننا كنا نشكو من أن طعمه لا يتناسب مع شكله. كان دائما قليل الملح باهت المذاق. يقول الخبير إن المشكلة لم تكن فى الطعام، بل فى الصوت العالى لمحركات الطائرات.

 

 

  سمعت أن بعض العلماء انشغل بهذه الظاهرة، ظاهرة صعوبة تذوق الطعام فى وجود أصوات عالية، وأن عددا منهم وجد علاقة مؤكدة بين الصوت العالى وفقدان القدرة على التذوق سرعان ما تبنتها شركات عديدة لزيادة مبيعاتها وتحسين أدائها. أفهم الآن مثلا لماذا يبالغ أصحاب مطاعم الوجبات السريعة فى رفع صوت الموسيقى الصادرة عن مكبرات الصوت فيها. هؤلاء أدركوا أن الصوت العالى للموسيقى دافع للملل السريع وهو الأمر اللازم لينهى الزبون طعامه ويغادر تاركا مكانه لزبون آخر. نجد على العكس أصحاب مطاعم فاخرة يقدمون مع الطعام والشراب موسيقى ناعمة وهادئة تشجع الزبائن على الاستمتاع بتذوق ما يتناولون وطلب المزيد والبقاء أطول فترة ممكنة. الفعل ذاته يقوم به صاحب السوبر ماركت الذى يضع موسيقى هادئة فى قسم البقالة تشجع الزبون على أن يتجول الهويدا فى أنحاء القسم فيبقى فى المكان مدة أطول ويشترى أكثر.

 

وقد سمعت أن محال سلسلة Safeway فى الولايات المتحدة تقوم بتزويد قسم الخضراوات بقطع موسيقية تحتوى على مقاطع تشى بسقوط المطر، لأن صوت المطر يوحى للزبون بأجواء زراعة الخضراوات واستمرارها طازجة. أما شركة Fritto-Lay الشهيرة بإنتاج رقائق البطاطس «المقرمشة» فقد اكتشفت هى الأخرى عن طريق باحثيها أن الصوت الذى تصدره المادة التى تدخل فى تصنيع المغلف «الكيس» المحشو بالرقائق يشجع الزبائن على شرائه، إلى جانب أنه يضاعف قدرة المستهلك على تذوقها. وقد تبين بالبحث المعملى أن الرقائق إذا صنعت بطريقة تنزع عنها صوتها انفض عنها زبائنها وبخاصة الأطفال.

 

أما مطاعم السمك، فقد استخدمت الموسيقى الناقلة لصوت البحر لتشجع زبائنها على استهلاك أسماكها، بخاصة الأنواع الفاخرة من الجمبرى. حدث هذا بعد أن اكتشف الباحثون أن صوت تلاطم الأمواج يشيع فى المطعم رائحة «اليود» والملح، ويثير فى الزبون رابط العلاقة بين البحر والسمك، ويطمئنه نفسيا إلى أن السمك الذى يتناوله طازج.

 

 

  سألت عددا من الأصدقاء الذين جربوا أو اعتادوا تناول الطعام والشراب أمام التليفزيون، أو فى صالات دور السينما، سألتهم إن كانوا استمتعوا بطعم الوجبات التى تناولوها؟ جاءت الإجابة الجماعية بالنفى. يظن هؤلاء أن وجبات العشاء التليفزيونية المجمدة، أو الوجبات الجاهزة التى تقدم لمرتادى دور السينما الفاخرة، هى فى الأصل غير مطهوة بخبرة أو كفاءة. هؤلاء لا يدركون أن الصوت العالى الصادر عن التليفزيون فى البيت والمصاحب للفيلم فى صالة السينما مسئول أساسا عن سوء أو انعدام مذاق الطعام.

 

 

أغيثونا يا أهل الحكم والإعلام والإرشاد والحشد. اخفتوا أصواتكم وكل الأصوات العالية. نريد ان نستعيد لحواسنا قدراتها. نريد منكم أن تعلموا أن حواسنا كافة لها قدر الأهمية التى نوليها لحقوقنا وحرياتنا، وربما أكثر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved