بعضٌ من أيام محمد سلماوى

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 7 ديسمبر 2017 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

هذه الأمسية الرائعة تأتى فى وقتها تماما، نحتاج إلى حميميتها ودفئها ورقيها لنهرب من مشاهد الدم المسفوك داخل الوطن وخارجه، نتلهف على هذا المزيج الفريد من العطور الفرنسية ورائحة العشب الأخضر لنحقن مسامنا بهواء غير الهواء. فى الطريق إلى هذه الأمسية كان كل شيء محببا.. صاحب الحانوت الذى سألته وقد تشابهتْ علينا الاتجاهات عن الطريق إلى قصر «عائشة فهمي« فرد من فوره« عائشة هانم فهمي« وقدم العون المطلوب، الأضواء الخافتة تكشف بعض مفاتن القصر الذى جُدِد حديثا فصار بحق تحفة للناظرين، السيارات الفارهة والمتوسطة تصطف خارج القصر تشى بأن صاحب الاحتفال عابر لكل الطبقات وهذه حقيقة، دبلوماسيون ووزراء وفنانون وكُتاب وسياسيون من كل الاتجاهات وكأن صاحبنا يصنع جسرا بين الجميع وهذه حقيقة أخرى، تمر وجوه كثيرة وعيون كثيرة وتأخذنى عينا لبنى عبدالعزيز الخضراوان ثم تهربان وسط الزحام قبل أن أعترف لها أنى أحببت رسالتها من امرأة مجهولة كما لم أحب شيئا أبدا. وأخيرا عند مدخل البهو الفسيح كان محمد سلماوى يقف مرحبا وإلى جواره نازلى مدكور، عندما سنقرأ سيرة سلماوى سنعرف أكثر عن قصة حب محمد ونازلى.. سنعيش معهما الخفقة الأولى والدمعة الأولى والتحدى الأول والمولود الأول وسنتفاعل مع هذه المحطات بمشاعر تلائمها فالأسلوب يُبهج ويُبكى. اكتشفت الآن أننى فى فقرة واحدة استخدمت حرفّى الحاء والباء على كل الصور النحوية الممكنة: فعلا وصفة واسما وهذا جزء من تأثير المناخ العام للاحتفال.

***

اختار محمد سلماوى لسيرته الذاتية عنوان « يوما أو بعض يوم « وهو عنوان له أكثر من معنى، فقد يراد به أن العمر قصير وإن طال، أو أن المروى عن هذه السيرة أقل من نصفها وتحديدا من ١٩٤٥ وحتى ١٩٨١. بداية السرد ونهايته أيضا يمكن فهمهما على عدة وجوه، فالبداية ترتبط بلحظة ميلاد الكاتب الكبير والنهاية ترتبط بلحظة مقتل السادات، شروق وغروب ليسا بنمطية تعاقب الليل والنهار نفسها لكن بدلالات سياسية غير خافية فلسلماوى اتجاه وللسادات اتجاه مختلف تماما. على المنصة توسط سلماوى دكتور مصطفى الفقى ووزير الثقافة حلمى النمنم ودكتور جابر عصفور، وجاءت كلماتهم الثلاث متكاملة: تحدث الفقى عما يمثله سلماوى من قيمة رفيعة فى الساحة الثقافية المصرية والعربية والدولية وعن شخصيته الموسوعية القادرة على اقتحام الفكر ومزاملة الكبار، ودلف بِنا النمنم إلى داخل الكتاب وطاف بِين فصوله، وقدم عصفور تحليلا أدبيا للعمل الذى وصفه بأنه من أروع السير الذاتية التى قرأها فى الفترة الأخيرة.

***

أخذنى من تحليل عصفور ذلك التلاعب اللفظى الذى استخدمه للتمييز بين الوضع الطبقى لسلماوى ووعيه الطبقى وهذا غير ذاك، فمحمد سلماوى هو سليل العائلة الأرستقراطية التى غرس شجرتها أحد قادة فاتح مصر عمرو بن العاص، جده لوالده محمد السلماوى بك عمدة إحدى قرى محافظة كفر الشيخ وجده لوالدته محمد شتا بك التاجر الكبير الذى أهدى مونتجمرى «منشة من سن الفيل الخالص« تقديرا لدور الأخير فى الدفاع عن مصر. لكن محمد سلماوى أيضا هو من ارتبط بمبادئ ثورة يوليو رغم أن سياسات الإصلاح الزراعى والتأميم أصابت أسرته بضرر عظيم.هنا يلفت النظر أن سلماوى حاول أن يمسك باللحظة التى بدأ فيها يُعجب بالثورة وقائدها فيحكى أنه عندما سأل والده لماذا أمم ناصر شركاتهم رد عليه بأن ناصر لم يأخذ شيئا لنفسه لكنه أراد أن يصحح الخلل فى توزيع الثروة فى مصر. ومع ذلك فإن بداية إعجابه بعبدالناصر تسبق مطلع الستينيات، هو نفسه يحكى كيف تفتح وعيه الوطنى عام ١٩٥٦ فى ذروة الصراع بين ناصر وأنطونى إيدن ثم جاءت غطرسة مدير المدرسة الإنجليزى مع زميله منصور حسن ليمتد الحبل الواصل بين العام والخاص ويتحول الصراع حول قرار الصلاة فى المدرسة لجزء من الصراع على قرار تأميم قناة السويس. 

***

الشاهد فى قضية التمييز بين الوضع الطبقى والوعى الطبقى لسلماوى أنها تعبر عن نزوعه الدائم للتمرد، كل من تسكنه روح الفن هو متمرد بالسليقة. تمرد على الدراسة العلمية والتحق بالقسم الأدبى مرددا قول نيتشه « إنى هكذا وسأظل هكذا ولتذهبوا جميعا وتشنقوا أنفسكم «، وتمرد على هيئته فقرر أن يحلق رأسه بالموسى كما يفعل الفراعنة، وتمرد على رفض أهل نازلى ارتباطها به فتزوجا وخلقا أمرا واقعا.. التمرد هنا مشترك فنازلى بدورها فنانة تشكيلية مبدعة، وتمرد على عمله الجامعى واختار العمل صُحفيا بضم الصاد كما كان يقول أستاذه رشاد رشدى من باب التهكم، وتمرد على حضن أمه التى دللته وتعلق بها للمدى الأقصى حتى إذا زج به السادات للسجن فى انتفاضة الخبز أخذه لحضن أمه حنين لا يُقاوَم. اختبر مهاراته فى التدريس والترجمة والتأليف الجامعى والكتابة المسرحية والصحافة والتمثيل وكانت مفاجأة أن نعرف أنه لعب دورا فى فيلم «شنبو فى المصيدة « وفى هذا تمرد ومغامرة.

***

إنها سيرة ذاتية تلمس شغاف القلب، تحرك صاحبها بحرية كبيرة بين التواريخ والأزمنة، وسخر بخفة ظل حتى من نفسه حين علم أن اسم «موني« الذى كانت تدلله به والدته مأخوذ من اسم كلب صديقتها الإيطالية ومن يوم أن علم لم يرد قط على سؤال: من أين جاء اسم مونى ؟ وسخر من أخيه الذى كان يريد اصطياد طائرات العدوان بالنبلة. سيرة كتبها قلم رشيق يجمع بين الفصحى فى الأعم وبين العامية أحيانا فتجد وصف «مكبب« جنبا إلى جنب أوصاف« انفجار النجوم وهى مازالت فى وهجها«. سيرة لن يجد قارؤها نفسه فى موقع البطل بالتأكيد لكنه سيجد نفسه فى كثير جدا من تفاصيلها.. فشكرا لسلماوى الذى أهدانا سيرته أو بعضا منها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved