الروح الرياضية.. زهقت

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 8 فبراير 2012 - 9:05 ص بتوقيت القاهرة

لا أعتقد أن مربيا فى مدرسة أو فى بيت وعائلة يطاوعه ضميره هذه الأيام فينصح الصغار أن اذهبوا لتمارسوا الرياضة، فالرياضة تبنى الشخصية كما تبنى الأجسام. شاهدنا، ومعنا الملايين، ماذا فعلت الرياضة بالصغار، أبناء كانوا أم أحفادا، الذين تكبدوا عناء السفر وتحمل البرد القارس وراحوا يمارسون الرياضة استمتاعا فى بورسعيد. عاد بعضهم بشخصية محطمة وعاد بعض آخر جثثا هامدة.

 

●●● 

 

لم يدر بخلد المؤسسين العظام للرياضة الحديثة أن يكون مآلها هذا المصير الأسود. كان للرياضة أهداف نبيلة هى التسلية وقضاء وقت ممتع ونشر أجواء «الحب»، وجدت جميعها خلاصتها فى عبارة من كلمتين «الروح الرياضية». وردت هذه العبارة لأول مرة فى رواية للكاتب الإنجليزى توماس هيوز صدرت فى عام 1857 بعنوان «أيام توم براون المدرسية»، وتحكى تجربة بطل الرواية مع رياضة كرة القدم الإنجليزية المعروفة بالراجبى. تحكى الرواية حكاية تلاميذ يلعبون من أجل «الحب والمجد العظيم العائد من ممارسة لعبة جماعية». وفى النهاية يصف الكاتب التلاميذ وقد صاروا «رجالا مهذبين ومحترمين» Gentelmen. هكذا ارتبطت الرياضة ببناء شخصية الإنسان المهذب والمجامل والمحب وصاحب التعامل الراقى مع منافسيه، الإنسان الذى لا يهتم بالفوز فى حد ذاته بقدر ما يهتم بقضاء وقت راحة مستمتعا بصحبة جيدة وعلاقات صحية.

 

وصلت الرواية فى عام 1886 إلى المسيو بير دى كوبيرتان الفرنسى الذى يعود إليه الفضل فى بعث الروح فى الألعاب الأوليمبية. ومن فرنسا انتشرت فى أرجاء العالم عبارة الروح الرياضية محمولة على أعناق كوبيرتان إلى تنشيط الرياضة وإقامة الألعاب الأوليمبية.

 

●●●

 

كتب كونستابل بوس كتابا بعنوان «روح اللعبة: كيف صنعت الرياضة العالم الجديد»، رصد فيه مسيرة الروح الرياضية منذ أن بعثت فى رواية توماس هيوز إلى أن ماتت حسب رأيه على أيدى رجال من نوع ميردوخ، إمبراطور الإعلام التليفزيونى والورقى، وكيرى باركر صاحب شركة أديداس وهورست واسلر مبتكر فورميولا ــ وان، وبلاتر رئيس الفيفا ومن يدور فى فلكها. أضيف من عندى إلى هؤلاء رجال سياسة عديدين مثل جمال وعلاء مبارك وقادة عسكريين فى باكستان والهند وعصابات مافيا فى فلوريدا ونيويورك وشيكاغو.

 

يقول بوس فى كتابه إن الرياضة المعاصرة مرت بثلاث مراحل منذ أن أطلق شرارتها المسيو دى كوبيرتان فى أواخر القرن التاسع عشر. تنتهى المرحلة الأولى فى عام 1930. شهدت هذه المرحلة انتشار الألعاب البريطانية فى أرجاء الإمبراطورية، ويؤكد أنه لم يكن وراء نشرها أهداف إمبريالية أو تجارية أو توسعية.

 

كان الإنجليز يلعبون للتسلية، وقلدتهم شعوب المستعمرات، فاعتنقت مثلهم عقيدة أرنولد دى كوبيرتان.  آمنوا بالروح الرياضية. وفى تلك الأثناء نشطت حركة الشبان المسيحيين وهذه لا ينكر فضلها على نشر لعبة كرة السلة وكرة اليد وبث فكرة بناء الشخصية وصولا إلى أخلاقيات وسلوكيات الرجل المحترم والمهذب.

 

خلال هذه المرحلة ظل الهدف من اللعب قضاء الوقت وإقامة علاقات مودة بين اللاعبين، ولم يكن الفوز هدفا، وبالتأكيد لم يكن للمال دور أو دخل لا من قريب أو من بعيد.

 

●●●

 

بدأت المرحلة الثانية بظهور القوميات «المتطرفة»، سواء فى سياق حركات الاستقلال التى نشبت فى العديد من المستعمرات أو فى سياق صعود الفاشية فى أوروبا وبخاصة فى إيطاليا أيام بنيتو موسولينى وأدولف هتلر.

 

كانت هذه مرحلة القومية الرياضية. صحيح أنه منذ أطلق كوبيرتان دعوته الأوليمبية بدأت حكومات تسعى للفوز فى الرياضة لأسباب تتعلق بالكرامة والعزة الوطنية، إلا أنه لم يصبح بندا وطنيا وقوميا إلا بعد أن أضافه الحكام إلى قائمة مصادر القوة السياسية. هكذا خرجت الرياضة عن الخط الذى رسمه لها الآباء المؤسسون، خرجت عن خط بناء علاقات أخوة وصحبة بين «الناس المحترمين» إلى المنافسة على الفوز لأهداف تحترم مصالح أفراد أو هيئات أو دول لا «تلعب».

 

●●●

 

جاءت المرحلة الثالثة حين انحدرت الرياضة إلى التجارة بفضل ظهور التليفزيون. فى هذه المرحلة هيمنت على الرياضة عموما وكرة القدم خصوصا شركات لا تهتم بالوطنية أو القومية ولا تهتم بالحب وراحة الإنسان أو شغفه للاستمتاع بصحبة طيبة وقضاء وقت سعيد. هذه الشركات تهتم بتحقيق الربح ومضاعفة الأعداد الغفيرة من المشاهدين والمتفرجين. تحولت الرياضة إلى صناعة تدر المال وتخلى الرياضيون عن «الحب والتسلية» كدافعين أساسيين للرياضة وتخلوا عن الوطن كدافع إضافى انضم لاحقا. تخلوا عن كل هذه الدوافع من أجل المال، الذى احتل موقع الدافع الأهم، وربما الوحيد، لممارسة الرياضة. تخلوا عن الرياضة كهواية واحترفوها مهنة.

 

لا أحد يعرف بالدقة أين تذهب المليارات الثلاث التى تحصل عليها الفيفا سنويا، أو الملايين التى يحصدها مغامرون وزعماء عصابات دولية يشترون النوادى الرياضية الأشهر فى العالم. لا أحد يحقق عن الدور الذى تقوم به وزارات الداخلية والأحزاب الحاكمة فى توظيف الرياضة لخدمة مصالحها ومصالح الطبقات الحاكمة.

 

●●●

 

ما نعرفه على وجه الدقة هو أن الرياضة كما مورست فى بورسعيد، وكما تمارس منذ سنوات فى معظم الدول العربية، بل وفى أنحاء شتى من العالم، لا علاقة لها بالروح الرياضية. نعرف أيضا أن الرياضة لم تعد تبنى الشخصية أو تحافظ على صحة أجسامنا، إنما تفعل العكس تماما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved