محطة مصر

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 8 فبراير 2012 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة

مشهد

 

محطة مصر. الثالثة صباحا. الصالة الكبيرة المهيبة تدوى بالهتاف، هتاف هادر يعود الصدى فيضاعفه. المئات بل الآلاف موجودون هنا، الأعلام تتماوج لا تسكن لحظة، الشباب يتكدس على أبراج السقالات الموجودة بعد فى الصالة، على الشرفة العالية التى تطل عليها، على السلالم، هتافٌ هتافٌ هتاف. هتاف بسقوط حكم العسكر، هتاف بحقوق الشهداء، هتاف يطالب بالقصاص. الصالة شامخة راسخة ذات خصوصية، تكسوها من الداخل عناصر ديكور باذخة الحجم والابتذال، يواجهك كمٌ من المذهَّبات السخيفة ــ لكنك تلمح من ورائها التكوينات القديمة الأساسية للسقف والحوائط. والغضب يملأ المكان تكاد تلمسه. الأولتراس، الأمهات، شباب الثوار، المتعاطفون، الكل ينتظر القطار الآتى من بورسعيد. ويأتى القطار، يئن ويتباطأ، يهب المئات للقائه فيدخل إلى الرصيف تكاد لا تراه من الرابضين فوقه، المتعلقين به، الراكضين إلى جواره. قطار درجة ثالثة، خمس ساعات ليأتى من بورسعيد، خمس ساعات فى البرد القارس، فى الظلام، للشباب الذى نجا من المذبحة، من الغدر، للشباب الذى استشهد اخوانه بين يديه، للشباب الذى يدخل الآن إلى القاعة يساند بعضه بعضا، شباب تلتف رأسه أو أطرافه بالضمادات، شباب بالملابس الممزقة، شباب بالدماء. خبا الهتاف؛ فالطاقة كلها تحولت إلى الأحضان، إلى البحث عن وجه معين، إلى السؤال والإجابة عن السؤال.

 

مشهد

 

مسيرة الأمهات تتجمع عند محطة البنزين فى شارع قصر العينى. تقريبا كل امرأة مصرية عرفتها فى حياتى موجودة هنا: من جِدّات تخطين السبعين إلى فتيات فى الرابعة والخامسة عشرة. نمشى إلى شارع الدواوين ونقف عند السياج الحديدى رافعات اللافتات: أيوه بنهتف ضد العسكر، إحنا ولادنا الخط الأحمر. نحن خط الدفاع السلمى الأخير؛ هكذا المجتمعات العميقة التحضر منذ بدء التاريخ، عندما تستشعر تطور الخطر إلى الحد غير المسبوق وغير المقبول تتصدى له النساء. وكأنهن يقلن عودوا، عودوا إلى حدودكم ولا تأخذونا حيث لا حدود فإن فعلتم فأنتم الخاسرون. ضابط مظلات يخرج محفوفا بزميليه ليسأل إنتو عايزين إيه؟ مش خلاص ماتوا؟ عايزين إيه؟ ثم يذهب وتتضاعف أعداد المخبرين حولنا. نهتف رجعولى ولدى، سلموا لى بلدى. يقول أحدهم: «شايفين اللى بيصوروا؟ فرَّجتوا الأجانب علينا»، ويتدخل آخر ملطفا: «لا لا مافيش حاجة، لو بس كل المظاهرات تبقى لطيفة زيكم كده». البلادة بعينها.

 

مشهد

 

قصر العينى. الشيخ ريحان. محمد محمود. منصور. نوبار. الفلكى. جدران خرسانية. حواجز. أسلاك شائكة. جدران حجر رسم الشباب عليها، وهدموا واحدا منها وليس عندهم سوى سيخ حديدى وحبل ومجهود منسق. واضح من مواقع الجدران انها لا تحمى الداخلية ــ إن كانت الداخلية بحاجة إلى حماية ــ فهى بعيدة عنها، والداخلية يحوطها سور على أى حال، وعندها تحصينات. الجدران تعرقل المرور، وتضايق أهل الحى، وتستفز الشباب، لكنها بالأساس توفر الحماية لضباط الأمن والجيش حين يخرجون للصيد. كانوا، حين يخرجون، يصفون مجندى الأمن صفوفا بالدروع والخوذات ثم يطلقون النار من خلفهم ــ ولهذا كانت معظم إصابات المجندين فى الظهر. أما يوم الأحد، بعد استكمال الجدران، أصبح بإمكان الضباط أن يتمركزوا فى وسط شارع منصور، مثلا، ويصوبوا على الشباب براحتهم وظهرهم آمن.

 

مشهد

 

صورة وجه الفتاة به خمس بليات خرطوش؛ واحد أسفل العين اليسار بـ٤مم، وواحد فى عضمة الخد اليمين، الثالث بجوار الأنف والرابع والخامس فى ندبة الذقن. صورة أشعة لساق مبدورة بثلاث وثلاثين بلية خرطوش. سلمى سعيد. رآها المسلح الملثم وهى تصور الأحداث فأطلق الخرطوش وأصاب وجهها فوقعت. فضربها بخرطوش ثانٍ وهى راقدة فى الأرض. والخرطوش الثالث أطلقه والشباب يحملونها ويجرون بها فأصابها وأصابهم. مائة وستة بلية خرطوش منغرزة الآن فى جسد الشابة. لماذا؟ لأنها تسجل الحقيقة: تصور كيف يصطاد الأمن والجيش الشباب فى شوارع وسط البلد. تصوره وهو يقتلهم ويطفئ نور عيونهم.

 

مشهد

 

حارة، زقاق، مدخل من تلك المداخل بين المبانى التى يتميز بها معمار وسط البلد. هنا نصب أطباء الميدان نصبتهم: شباب وشابات بالبلاطى البيضاء، يسعفون ويعالجون كل من بحاجة إلى الإسعاف والعلاج. لو وقع فى أيديهم قاتل سيعالجونه ويشفونه. يقبلون علينا يسألون ما بنا. لحظات تمر قبل أن يدركوا أننا جئنا لنشكرهم، لنسأل إن كانوا هم بحاجة إلى شىء، فهم متأهبون للتقديم، ليس للأخذ بل للعطاء. يلفتون نظرنا للعلامات الضاربة تركها بلى الخرطوش فى لافتة الشارع وجانب العمارة فوق رءوسهم تماما. من يناير ٢٠١١ بدأوا يظهرون لنا. حين تظلم السماء ويختنق الهواء وينطلق الشرر، حين تنزل السواتر المعدنية على واجهات المحال وينخلع طوب الأرصفة وتتقد أكوام القمامة على جانب الطريق، ترى بلاطيهم البيضاء ووجوههم الجادة، أكياس الدواء تنبنى حولهم، والمعدات ترص بعناية على كراتين أو على سور مبنى: بؤرة عمل وحياة وأمل. يتمنون أن ينصرف الثوار لأنهم يأسفون على الشباب الذى يموت والشباب الذى يعاق، ويحبون الثوار لأن الثوار لا ينصرفون، فهم حياة الثورة، يغذونها ويبلورونها ويحمونها ويفتدونها.

 

هناك هتاف يبدأ: ياللى بتسأل إحنا مين ــ ويتنوع الشطر الثانى بين: إحنا شباب خمسة وعشرين، وإحنا جموع المصريين. فعلا: إحنا الأمهات والآباء والشباب، إحنا الأطباء والأولتراس، إحنا هادمى الجدران والمصورين والمؤرخين والشاهدين، إحنا أطفال الشوارع والغلابة، إحنا المصابين والشهداء. إنتو بقى مين؟ من أنتم يا من تقتلون الناس فى مباراة رياضية، وتؤججون الفتنة وتخطفون الشباب وتزيفون اللغة وتفتعلون الأزمات وتنثرون الجدران العازلة والأسلاك الشائكة فى شوارع عاصمتنا وكرات الرصاص فى أجساد شبابنا؟

 

نشهد هذا التخريب النشط والبرلمان بالكاد يخطو خطواته الأولى، فهذا النشاط الزائد بالأساس رسالة له، وعلى البرلمان أن يعيها وأن يدرك أن لا مجال هنا للإمساك بأى صنف عصا من النصف. شهدنا البرلمان محصنا ضدنا؛ بنوا له سياجا من الحديد ليمنع الشعب عن مجلس الشعب. سمعنا بعض النواب يقترحون إمداد الداخلية بتشريع يبيح قتل المتظاهرين. رأينا نوابا آخرين يبدأون فى إضراب عن الطعام حتى ينتهى القتل. البرلمان اليوم عنده نفس الفرصة التاريخية التى أضاعها العسكر على نفسه: أن يختار الانحياز إلى الشعب فإن فعل فالشعب حاميه، أن يسمو فوق الاعتبارات الحزبية ويرقى للحظة يتوحد فيها مع نفسه ومع الوطن فيسجل له التاريخ دوره فى ولادة النهضة المصرية الجديدة. النهضة آتية، والثورة مستمرة، والزمن زمن الشباب والشباب لن يستكين، فهذه بلاده وهذه حياته وقضيته. مِصر، كمحطة قطارها، تكوين شامخ عريق متفرد، تلتصق به التراكمات المتباينة من المبهرج القبيح إلى المهترئ العفن إلى الرخيص الزائف ــ وكلها زائلة وتبقى مصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved