ما أشبه اليوم بالبارحة

امال قرامى
امال قرامى

آخر تحديث: الإثنين 8 فبراير 2016 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

هيمنت صورة الزعيم الحبيب بورقيبة على مواقع التواصل الاجتماعى فى السنوات الأخيرة، خاصة فى زمن الأزمات حين شعر أغلب التونسيين بالخوف بعد انهيار عدد كبير من مؤسسات الدولة، وحين أدركوا هشاشة الدولة وغياب الإرادة السياسية وانتبهوا إلى سعى الساسة إلى تقديم مصالح الحزب على مصالح الوطن. ولعل أهم ما يوحى به تداول صور الزعيم هو تعلق أغلبهم بصورة القائد ورجل الدولة الذى حرر البلاد وأرسى أسس «الدولة الحديثة» والبحث عن الشخصية القادرة على سد الفراغ، وبالإضافة إلى انتشار صور بورقيبة وخطبه تداولت فئة من الفايسبوكيين صور صدام حسين الذى مثل فى نظرهم عنوان البطولة والمقاومة.

وما إن تم اغتيال الشهيد شكرى بلعيد حتى تجاورت صوره، وخطاباته وأقواله... مع صور الزعيم بورقيبة. ومال أغلبهم إلى مقارنة الوضع الحالى بما كان قد نبه إليه الشهيد بلعيد بشأن سلوك الإسلاميين العنيف وانتهاكهم للحريات الفردية والحريات الأكاديمية وحرية الإبداع، وانسياقهم وراء تغيير نظام الدولة، وكرههم للتنوع والتعددية و«الذكاء التونسي»... وقد اعتبر أغلب التونسيين أن البلاد فقدت زعيما آخر كان بإمكانه أن ينقذ البلاد من عمليات تحويل وجهة البناء الديمقراطى وأن يؤثر فى الحياة السياسية بشكل مميز وأن يمثل القائد السياسى المنشود.

وبقطع النظر عن طرق تشكيل الذاكرة الجماعية وكيفية تمثل صورة بلعيد التى تصل إلى حد الأسطرة فإن الحقيقة التى لا مرية فيها أن اغتيال بلعيد مثل منعرجا فى التاريخ السياسى والاجتماعى وحفز أغلب التونسيين، بقطع النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية، على التفكير فى أسباب ظهور العنف السياسى والعمل على تحصين المجتمع من هذا الداء... ولكن سرعان ما سقط الشهيد الثانى محمد البراهمى.

***
وبعد توالى الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفقدان الأمل فى وجود القائد والزعيم والأب والرفيق والقدوة والمثل و... عاد القوم إلى إنعاش الذاكرة ونشر صور بلعيد من جديد علهم يفارقون حالة الإحباط والشعور باليأس و«اليتم». وما الرجوع إلى الماضى القريب سوى هروب من مواجهة الواقع وعجز عن معالجة المصاعب.

ويتضح أن الأذى النفسى الحاد psychological trauma الذى خلفه اغتيال الشهيد بلعيد أصاب الجموع وأربك البنية النفسية لملايين التونسيين بقطع النظر عن انخراطهم فى الحياة السياسية من عدمه. وما اللجوء إلى استحضار مقاطع الفيديو والصور والتعليق عليها «الفيديو الذى يجب أن يراه جميع التونسيين»، «الزعيم الذى رحل قبل الأوان»... إلا ردود فعل نفسية دالة على عسر إجراء الحداد وتجاوز حالة الصدمة والشعور بالألم.

لقد أحدث مقتل بلعيد جرحا نازفا فى نفوس أغلب التونسيين وجعل الجموع تصر على التذكر وتقاوم النسيان بشتى الطرق: بعقد المسيرات الاحتجاجية المطالبة بـ«من قتل بلعيد» التى تجوب شارع الحبيب بورقيبة كل يوم أربعاء، بارتداء القمصان التى تحمل صور بلعيد، بنشر أقوال بلعيد الرمز والأيقونة، برسم وشم يحمل صورة بلعيد على أجساد الشبان، بترديد «حياك بابا حياك» الأغنية المفضلة لدى بلعيد.. كلها أشكال تصر على التذكر وترفض النسيان. وما التذكر إلا علامة على التخليد والوفاء والالتزام بكشف الحقيقة.

وطالما أن القيادات السياسية تصر على معالجة القضية سياسيا لا قضائيا فإن قضية اغتيال بلعيد ستكون وصمة العار التى تلازم كل الحكومات التى جعلت القضية لغزا يكتنفه الغموض وموضوعا تتلاعب به مختلف الأطراف السياسية، ولم تبرهن على جرأة ومسئولية وقدرة على تحمل تبعات كشف الحقيقة... ليتحصل التونسيون على جائزة نوبل للسلام، وليتباهوا بالوفاق الوطنى، والوحدة الوطنية... ذاك هو الوجه. أما القفا فهو مخجل بل عار وشنار ولعنة تلاحق السياسيين: التستر على قاتلى بلعيد والبراهمى وغيرهما من شهداء الوطن حفظا لتوازن القوى السياسية ورضوخا للضغوط والإكراهات.


أستاذة بالجامعة التونسية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved