أسياد البلد

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 8 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

«متى ينتهى هذا الوضع الذى وصلنا إليه؟»، الاحتقانات السياسية تتمدد، والانهيارات الأمنية تتسع، والأزمات الاقتصادية تأخذ البلد كلها إلى الفوضى الجائعة.. والاحتجاجات تنطوى على شىء من الممانعة وشىء من الأمل فى مستقبل آخر.

 

العنف البادى فى صور ما جرى فى محيط دار القضاء العالى فيه أزمة سلطة تتصور أنها يمكن أن تحكم قبضتها فى غياب الوسائل السياسية وأن تفرض نفسها سيدا وحيدا على البلد كله، فقد تحولت التظاهرات السلمية إلى حرب شوارع اختفت معالمها تحت سُحب الدخان الكثيفة، وبدت الشوارع الجانبية ميدانا لحرب استدعت فى بعض مشاهدها تدخلا للفصل بين القوات. هذه المرة يصعب اتهام المتظاهرين بالعنف، كانت دعوات السلمية حاضرة فى المشهد وتجمعاته حتى بدأت قوات الأمن فى إطلاق القنابل المسيلة للدموع من داخل دار القضاء العالى والدخول فى عمليات تمشيط بالمدرعات فى الشوارع الجانبية. مشاهد الصدام تكررت بسيناريوهات مختلفة فى محافظات أخرى، وبدا الأمر مقصودا لدمغ التظاهر بالعنف واستهلاك طاقة الغضب فى اشتباكات من مثل هذا النوع.

 

تماهت أجواء الصور مع مثيلتها التى التقطت قبل خمس سنوات فى (٦) أبريل (٢٠٠٨).

 

لم يكن أحد يتوقع فى ذلك الوقت أن تحصد دعوات العصيان المدنى على شبكة التواصل الاجتماعى نجاحا مؤثرا فى هز أركان نظام «حسنى مبارك»، ويعود نجاحها إلى أمرين.. أولهما ذعر النظام الذى أفضت تصرفاته إلى إثارة مخاوف عامة من اضطرابات واسعة تخل بالأمن العام، والتصرفات المذعورة ساعدت أن تبدو العاصمة فى هذا اليوم شبه خالية والمدارس بلا تلاميذها.. وثانيهما دور مدينة المحلة فى تلخيص الغضب، وقد أدى إضراب عمالها فى المساء إلى زخم استثنائى فى شوارعها.. وتلخص اليوم كله فى مشهد سجلته الكاميرات لشاب يصعد عامود إنارة لإسقاط صورة كبيرة للرئيس السابق، وكانت رسالة المحلة أن النظام سقط والباقى تفاصيل، الرسالة تتكرر بصياغات جديدة بعد خمس سنوات على الحدث الكبير أن ما يحدث فى مصر لا يمكن له أن يستمر على هذا النحو الذى يفكك فى بنية الدولة ويلقى بظلاله الغامضة على مستقبل مواطنيها.

 

فى (٢٠٠٨) ولد جيل جديد بخيال مختلف.. وفى عام (٢٠١١) لعب دورا حاسما على مسرح التاريخ قبل أن يدخل فى متاهات نالت من حجم الدور الذى لعبه، ضحى وحصد غيره جوائز السلطة.. وفى عام (٢٠١٣) تتبدى مقدمات مراجعة ضرورية للجيل ودوره والثورة ومستقبلها والدولة ومصيرها، وكانت التظاهرات التى شملت جماعات شبابية مختلفة فى ذكرى خمس سنوات على أحداث (٦) أبريل إشارة إلى شىء يولد من جديد. وهذا المعنى ربما أثار مخاوف السلطة الحالية، فاستدعت العنف حيث كانت السلمية حاضرة. غير أن مشكلتها تتجاوز السياسى إلى الاجتماعى، ففى كل يوم أزمة وفى كل أزمة احتجاج ومع كل احتجاج إغلاق طرق أو مشاجرات بالسلاح أو انفلات طائفى، وهذه كلها أحوال لا يصلح لمواجهتها تلويحا بأصبع يد!

 

فى ظلال الصور أزمة دولة فى حالة اختلال فادح، وهذه الفكرة بالذات تصدرت الخلفية العامة لحوادث تلاحقت واحدة بعد أخرى فى أسبوع واحد إلى مقدمة المشهد المحتقن.

 

فى حادثتى تسمم طلاب الأزهر وحريق محكمة جنوب القاهرة استدعت الاحتقانات السياسية معاركها ودخل التسييس الزائد عن الحد ملفاتها، فى الأولى غابت التساؤلات الضرورية عن سلامة إجراءات التغذية لطلابها ومسئولية الاستهتار البالغ فى مستوى الخدمات العامة بها.. وفى الثانية غابت تساؤلات مماثلة عن التدهور الكبير فى إجراءات السلامة والأمان فى واحدة من أهم المحاكم المصرية وأرشيفها يحتوى على مستندات ووثائق تتعلق بالذاكرة العامة.

 

لم يكن أحد مستعدا أن يتأمل المشهد حوله، أو أن ينتظر حتى يستوعب من نتائج التحقيقات الجنائية حقيقة ما جرى.

 

فى الحادثتين المروعتين الأطراف كلها تصرفت بنوازع الكراهية المتبادلة وبادرت بعضها الآخر بنظريات المؤامرة.

 

حادثة التسمم دخلت بوقائعها الجنائية ملف الصراع على الأزهر ومستقبله واحتمالات إخضاعه لهيمنة الجماعة ومكتب إرشادها.

 

اقتحام المشيخة جرى تفسيره على أن القصد منه إطاحة شيخ الأزهر والذهاب بأهم مؤسسة إسلامية فى العالم إلى الأخونة. هذا الاستنتاج ساد المناخ السياسى المحتقن.. تصاعدت التحذيرات من الانقضاض على الأزهر وتعلن تأييدها لشيخه.. وبدأت التعبئة العامة بين رجال الأزهر للتصدى لمحاولة الاعتداء عليه أو أخونته، ودخل الصراع بين مشيخة الأزهر والجماعة فى منحى تنازع الاتهامات من فوق منابر المساجد. وكالعادة نفت الجماعة تاليا أن تكون لها نية التخلص من شيخ الأزهر رغم أن بعض قياداتها دعت إلى تحميله المسئولية السياسية عن التسمم الجماعى بينما أعفت فى الوقت نفسه الرئيس من أية مسئولية سياسية عن التدهور الخطير فى الانهيارات الجارية. فى الهجوم والتراجع أزمة حكم لا يعرف مواقع أقدامه، تقوده شهوات السلطة عنده للاستحواذ والهيمنة وتلجمه الحقائق حوله عن المضى إلى نهايات اللعبة، يتراجع بنية التقدم مرة أخرى.

 

وفى حادثة المحكمة فإن اللهب المتصاعد صاحبته اتهامات متبادلة ذهبت من مواقع متناقضة إلى نظريات المؤامرة مباشرة قبل التحقيق الجنائى فى أسباب الحريق والمسئولية عنه، ودخلت على الحريق أزمة النائب العام وتغول السلطة التنفيذية على أحكام القضاء وأنباء عن مذبحة قضاء جديدة تحوم فى الأفق.

 

السياسى تصدر المشهد مرة أخرى، والمعنى أن الدولة فى حالة اختلال، وأن التسييس الزائد عن الحد تعبير عن مجتمع فى أزمة ونظام بلا شرعية تقود تصرفاته.

 

بافتراض أنه لم تكن فى الحادثتين مؤامرات سياسية من أى طرف، فإن ما هو جنائى وإدارى شهادة تحلل جديدة فى وظائف الدولة وسلامة إجراءاتها، وأن الاستهتار بحياة المواطنين وسلامة المنشآت العامة وصل إلى حدود تهدر الكرامة الإنسانية ومعنى الدولة الحديثة معا. وهنا صلب المعضلة المصرية التى تتجلى فى حوادث تتدافع واحدة إثر أخرى وتنذر أحيانا باحتراب أهلى على ما جرى فى لبنان أو تفكيك للدولة على ما جرى فى العراق. فى الحوادث الجنائية تبدت السياسة ظاهرة وجلية، والتظاهرات السياسية من تجليات الغضب لكنها ليست الغضب كله، وبعض تداعيات التحلل فى بنية الدولة ما يقارب الأوبئة المستوطنة على ما جرى فى فتنة «الخصوص». الانكشاف الاجتماعى يتجلى فى حوادث شبه عادية تستحيل إلى فتن طائفية عندما يكون أحد طرفيها مسلم والآخر مسيحى. فى فتنة «الخصوص» استخدم السلاح الآلى، وسقط ضحايا، أحدهم جرى إحراقه، وفى صور العنف الطائفى مخاطر على سلامة البلد ومستقبله فى ظل حكم عنده مشكلة مستحكمة مع فكرة دولة القانون، ومستعد للمضى فى استدعاء العنف الطائفى بتمرير نص فى قانون مباشرة الحقوق السياسية يبيح استخدام الشعارات الدينية فى الانتخابات العامة، وهو انقلاب كامل على مفهوم الدولة الحديثة يناقض نصوص الدستور الذى وضعته الجماعة بلا توافق عليه.. الأخطر فى هذا التوجه أن فيه إدراكا للفشل الذى وصلت إليه إدارة الدولة فى ملفاتها الساخنة، أو محاولة لخلط الأوراق فى أية انتخابات عامة مقبلة بين الفشل السياسى والمقدس الدينى، والكلام ذاته فيه انتهاك للإسلام وقداسته بتحميله مسئولية فشل الجماعة. إباحة الشعارات الدينية مطعون عليها دستوريا، وقد تدفع فوضى التشريعات والاستهتار بها إلى تعميق جديد فى أزمة الدولة وماراثونها إلى المجهول.

 

فى هذا الماراثون أزمة شرعية تستدعى الاحتجاج عليها فى تظاهرات سلمية، واستخدام العنف المنهجى ضدها يدفع البلد كله إلى الحافة، أو المقامرة على المستقبل، فالعنف يولد عنفا، وإذا ساد منطق الميليشيات فإنها لن تكون حكرا على أحد. البلد كله فى حالة تسييس زائد والقمع يدفع إلى عنف زائد يأخذ من البلد مستقبله وسلامته.. ومستوى إدارة الدولة تراجع بصورة فادحة، فالمخابرات العامة شبه متهمة، والداخلية تحت الضغط، وتقاريرها الأمنية تذهب نسخا منها إلى مكتب الإرشاد، ووزارة الخارجية فى حالة تنحية عن لعبة أدوارها الطبيعية، والملفات الحساسة تمسكها شخصيات محسوبة على الجماعة، وبحسب معلومات مدققة فإن هناك «قومسيرات» لجماعة الإخوان المسلمين تعمل من داخل قصر الرئاسة على ملفات لها صلة بوزارات حيوية أخرى، تأخذ القرار وتمهد لإحلال عناصر محسوبة على الجماعة فى مفاصل جديدة من الدولة. هنا تظهر الأسباب الحقيقية للضيق بالمعارضة واتهامها بالتآمر، ومحاولة دمغ التظاهرات السلمية بالعنف، فللجماعة مشروعها فى «التمكين»، واعتباراته تفوق مصالح الدولة وتصورها أن «مشروع النهضة لا يمكن تنفيذه بلا أخونة الدولة» ونقد الجماعة «تطاول على الأسياد» على ما قال مرشدها السابق «مهدى عاكف».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved