نجيب محفوظ فى جامعة القاهرة.. حوار نادر (1)

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: الجمعة 8 أبريل 2016 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

لم يكن نجيب محفوظ روائيا فذا فقط، وكاتبا إنسانيا رفيعا يقطر بالحكمة الخالصة، بل كان محاورا من طراز رفيع، شهد كل من حاوره بأنه كان سريع البديهة حاضر الذهن حلو اللسان، خفيف الظل، تميز بنكاته و«قفشاته»، المعبرة عن عمق انتمائه وإخلاصه لروافد تكوينه الأولى ونشأته فى حى الحسين العريق. ورغم عشرات الكتب التى دونها أصدقاء لمحفوظ أو من أصدقاء عمره من شلة الحرافيش، وجمعت ذكرياتهم معه وحكاياتهم عنه، لتكشف عن جوانب من محفوظ الإنسان والصديق والمفكر، لكن تبقى لحوارياته المسجلة طزاجتها واكتنازها بألق لحظتها التاريخية التى لم تخبُ رغم مرور سنوات على تسجيلها، وكذلك لآرائه وتصوراته وبعض أفكاره التى طرحها ودلت على مدى انفتاح آفاق الخيال لدى محفوظ وقدرته الرهيبة على طرح الأسئلة الافتراضية حول المستقبل ومحاولة الإجابة عنها بإبداعية نادرة.

وعلى كثرة الحوارات المسجلة التى أجريت مع العظيم نجيب محفوظ، وكلها مشهور مذاع، لم أكن أتصور أن هناك حوارا لمحفوظ لم أشاهده أو أطلع عليه (أزعم أن كل ما كان متصلا بأديبنا الكبير مكتوبا أو مسموعا أو مرئيا سعيت إلى معرفته والاطلاع عليه)، وكانت مفاجأة كبيرة بالنسبة لى، سارة بالتأكيد، أن أشاهد فى الأيام الماضية، تسجيلا رائعا، نادرا، مجهولا، لنجيب محفوظ بحضور نخبة من كبار مثقفينا وأعلام الأدب والفلسفة فى مصر، وقام برفع هذا التسجيل على الشبكة العنكبوتية الأستاذة رشا ماهر البدرى.

تعود قصة هذا التسجيل النادر، إلى 27 عاما خلت تقريبا، حينما استضافت الجمعية الفلسفية المصرية الأديب الكبير عقب حصوله على جائزة نوبل 1988 (على الأرجح كان هذا اللقاء فى عام 1989)، وجرت وقائع هذه الجلسة المشهودة بقسم الفلسفة فى جامعة القاهرة، وبحضور أذهلنى شخصيا أن أرى هذه الأسماء مجتمعة ومتحلقة حول أديبنا الكبير لتستمع إليه وتحاوره؛ خذ عندك:

الدكتور محمد عبدالهادى أبوريدة، زميل دفعة نجيب محفوظ سنة 1934، وأستاذ الفلسفة المرموق والمترجم الجليل، وصاحب المؤلفات الفلسفية الرصينة. الدكتور أبو الوفا التفتازانى، أستاذ الفلسفة والتصوف وعلم الكلام بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان شيخ مشايخ الطرق الصوفية، ورئيس الجمعية الفلسفية المصرية. الكاتب والناقد الكبير محمود أمين العالم، بابتسامته الوادعة وحضوره القيم. الدكتور محمود حمدى زقزوق، أستاذ الفلسفة والتصوف والعقيدة الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة (وزير الأوقاف الأسبق). الدكتور عبدالمحسن طه بدر، الناقد الشهير، أستاذ الأدب والنقد بقسم اللغة العربية بكلية الآداب. الدكتورة أميرة حلمى مطر، أستاذة الفلسفة الشهيرة وعلم الجمال. الدكتورة فريال غزول الناقدة الكبير والأستاذة بالجامعة الأمريكية.

ومن الأصغر سنا (آنذاك) ظهرت الدكتورة يمنى طريف الخولى أستاذة فلسفة العلوم والبحث، والدكتورة وفاء إبراهيم أستاذة علم الجمال (المعيدة آنذاك)، والدكتور محمد عثمان الخشت (كان معيدا فى ذلك الوقت)، والمرحوم الدكتور على مبروك أستاذ الفلسفة وعلم الكلام بجامعة القاهرة، وغير هؤلاء كثير. وكان يدير اللقاء أستاذ الفلسفة المعروف، الدكتور حسن حنفى صاحب المؤلفات الغزيرة، وكان سكرتير الجمعية الفلسفية آنذاك؟

بشغف كبير وانبهار حقيقى، شاهدت واستمعت إلى تفاصيل اللقاء الذى جمع كل هؤلاء فى حضرة الكبير نجيب محفوظ، التسجيل مدته نحو الساعة وربع الساعة (ساعة وثلاث عشرة دقيقة بالضبط)، وهو قديم، ردىء الصورة (كان تسجيل الفيديو فى ذلك الوقت شىء يثير الانبهار) وتخللته تقطيعات لو علم صاحبها أى جرم ارتكب ما كان له أن يحذف أو يقتطع همسة من هذا الحوار!

وبدون أى تزيد أو مبالغة، فإن نجيب محفوظ تحدث فى هذا الحوار كما لم يتحدث من قبل، كان متدفقا وحيويا وممتلئا بالحنين والامتنان، ربما كان هذا الحوار كما علق عليه صديقى وأستاذى خير دومة «أفضل تسجيل رأيته لنجيب محفوظ على الإطلاق. يتكلم على راحته ويتحدث باستفاضة وبحكمة»، وهو وصف دقيق ومعبر تماما عن أداء نجيب محفوظ، خلال الحوار مع أساتذة وطلبة قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة.

بكامل الحيوية والتركيز، والانطلاق، تحدث محفوظ عن كتابته وشخصياته وعن أولاد حارتنا. يستمع بكل تركيز، ويجيب بكل وضوح، يستفيض أحيانا ويشرح أحيانا (ونادرا ما كان يفعل)، يستطرد فى ذكريات له قديمة مع أصدقاء قسم الفلسفة، وعلى رأسهم محمد عبدالهادى أبوريدة، الذى روى بدوره جانبا من ذكرياته وسيرته التى جمعته بنجيب محفوظ فى أوائل الثلاثينيات من القرن الماضى.

كلاهما ألقى بأضواء كاشفة على جانب مهم من حياتنا الجامعية، وتاريخنا التعليمى (طيب الله ثراه)، تحدث محفوظ بعفوية شديدة، وحميمية صادقة عن ذكرياته عندما كان طالبا بقسم الفلسفة «لم يكن هناك سوى أستاذين مصريين فقط يدرسان لنا منصور فهمى والشيخ مصطفى عبدالرازق.. والباقى كلهم أجانب».

يقول محفوظ إن حضوره إلى هذا القسم (بعد تخرجه بنحو 55 عاما) يحمل له شعورا خاصا، حضر اجتماعات كثيرة، لكنه لم يشعر بمثل هذا الشعور الذى يغمره وهو فى قسم الفلسفة «أشعر أنى عائد لبيتى، لعائلتى، عائلتى القديمة وليس عائلتى الجديدة. لذلك لم أفكر، إطلاقا وبكل أمانة فى موضوع أتكلم فيه أو ترتيب نقاط، أو يا ترى ماذا سيقولون وماذا أقول؟ لأنى أشعر أنى هنا سأتكلم مثل كلامى فى بيتى، وأن أى كلام سيلاقى صدى ومعنى؛ لأنى تقريبا أنا فى هذه الجلسة مقسم إلى أربعين أو خمسين شخصا، كلهم أصداء لبعض ويفهمون بعضهم البعض، ويحبون بعض، وينظروا إلى الدنيا نظرة قريبة أو موحدة».

بحب كبير وصادق، عبر محفوظ عن امتنانه للسنوات التى أمضاها طالبا بقسم الفلسفة «الفلسفة علمتنا أشياء كثيرة فى سبيلنا، علمتنا كيف لا نتسرع بالحكم، ونتأمل الأشياء. وكيف نتسامح للدرجة التى لا تُخل، بأن لكل شىء أكثر من وجه، وكل موقف له خلفياته، وكان الواحد فى أشد الأزمات، البعيدة عن الفلسفة، فتعطى له قدرا كبيرا من العزاء العقلى؛ لأن هناك عزاء عقليا مثل العزاء الروحى».

يلحظ كل من يشاهد هذا الفيديو السعادة التى غمرت محفوظ حين رؤيته لمحمد عبدالهادى أبوريدة، زميل دفعته، وكأنه انتقل فى لحظات إلى سنوات الثلاثينيات، تكلم محفوظ بتأثر عن علاقته بأبوريدة.. وجه له حديثه مباشرة «تقريبا لم أرك منذ تخرجنا.. لكنى دائما ما كنت أسأل عنك، وفى كل لقاء يجمعنى بأحد من قسم الفلسفة كنت أسأل عن أخبارك».

هذا التسجيل النادر احتوى على تفاصيل أراها شديدة الأهمية، شديدة القيمة، تستحق وقفات متأنية، أولا للكشف عنها وإذاعتها وبالطريقة التى تحدث بها محفوظ، بكل حسمه وإيجازه ووضوحه، وثانيا للدلالات المتعددة التى حملتها والآراء التى تضمنتها كذلك، وكأن بصيرة هذا الرجل كانت من القوة والسطوع للدرجة التى تجعلها تخترق حجب وغيوم السنوات والأيام لتقول لنا إنه كان «بصيرا من أهل الحكمة»، كان مبصرا بالرواية، مبصرا بالإبداع، قادرا برهافة غريبة وحدس المتصوفة على أن يقول لنا الآن (فى 2016) إن مشكلتنا ليست فى السياسة إنما فى الثقافة.. الثورة التى نحتاجها على الحقيقة؛ ثورة تعليم وثقافة وتحرر من «اللفظيين».. فمن هم هؤلاء اللفظيون الذين عناهم محفوظ فى حواره النادر؟
للحديث بقية..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved