تعويم الجنيه.. وتسويات البنوك.. ومأساة الخصخصة

فاروق جويدة
فاروق جويدة

آخر تحديث: الأحد 8 مايو 2011 - 8:29 ص بتوقيت القاهرة

 هناك جرائم لا تسقط بالتقادم حتى ولو مضى عليها عشرات السنين.. وإذا كان القضاء المصرى الآن يحاسب أشخاصا ومسئولين أخطأوا واستباحوا قدسية المال العام وأضاعوا على مصر فرصا كثيرة للتقدم والرخاء فإن هناك بعض النقاط السوداء التى ينبغى فتح ملفاتها لأنها لم تكن جرائم عارضة.. لقد كانت سياسات مالية فاسدة حركتها أغراض وأهداف ومصالح وما زالت تلقى بظلالها السوداء على المجتمع المصرى كله.. وإذا جاز لنا أن نقسم أنواع الجرائم بين المسئولين فهناك مسئول تربّح أو ارتشى أو سرق مال الشعب.. وهناك مسئول آخر استولى على المصانع أو الأراضى وباع وتاجر فى أصول الدولة.. وهناك مسئول ثالث أصدر قرارات ووضع سياسات خدمت مصالح عدد محدود من الناس ودفع المجتمع كله ثمنها غاليا.


الغريب فى الأمر أن نجد مسئولا واحدا ارتكب كل هذه الجرائم فى وقت واحد، فقد تربح وارتشى وباع اصول الشعب وتاجر فيها ووضع سياسات خدمت مصالح عدد قليل من البشر.. وفى تقديرى ان هناك ثلاثة ملفات سوداء يجب أن تكون لها أولوية خاصة فى قائمة التحقيقات التى تجرى الآن مع رموز النظام السابق.


● فى تقديرى أن أول هذه الجرائم هو قرار تعويم الجنيه المصرى فى بداية عام 2003 فى حكومة د.عاطف عبيد رئيس الوزراء فى ذلك الوقت.. هذا القرار من أسوأ القرارات الاقتصادية التى أضرت بالاقتصاد المصرى خاصة أن القرار لم يكن فى الوقت المناسب وترتبت عليه مخاطر كثيرة.. لا أحد يعلم حتى الآن من الأب الشرعى لهذا القرار هل كان عاطف عبيد أم جمال مبارك؟.. إن أخطر ما فى هذا القرار أنه تسرب قبل صدوره بأيام إلى عدد محدود من رجال الاعمال وأصحاب المصالح والمسئولين فى الدولة وكانت النتيجة أن قام هؤلاء باقتراض مبالغ ضخمة قُدِّرت يومها بالمليارات من البنوك بلا ضمانات وقاموا بتحويلها إلى دولارات وبعد ان صدر قرار التعويم ارتفع سعر الدولار بنسبة اقتربت من 50 % فقاموا ببيع الدولارات بسعرها الجديد وقد حقق هؤلاء أرباحا خيالية فى بضعة ايام، ويستطيع النائب العام د. عبدالمجيد محمود أن يطلب هذه الملفات لكى يكتشف عمليات التلاعب التى تمت ما بين البنوك ورجال الأعمال ومجلس الوزراء.

إن قرار تعويم الجنيه المصرى أعطى فرصة لعدد من الأشخاص لتحقيق مكاسب رهيبة.. كان سعر الدولار قبل قرار التعويم فى الأسواق 340 قرشا وفجأة وبعد قرار التعويم ارتفع ليصل إلى 550 قرشا ثم ارتفع مرة أخرى ولامس سقف سبعة جنيهات لكى يستقر عند 620 قرشا فى ذلك الوقت.. والسؤال هنا..

كيف تسرب هذا القرار إلى عدد من الاشخاص قبل صدوره.. وكيف تمت عمليات الاقراض السريع من البنوك لهؤلاء دون ضمانات.. وكيف تمت صفقات شراء الدولار بالجنيه المصرى ثم بيعه من خلال البنوك فى أيام معدودة وما هى المكاسب والأرباح التى تحققت من وراء ذلك كله.. والسؤال الاخطر والاهم لماذا كان تعويم الجنيه المصرى حيث لم تكن هناك ضرورات تفرضها ظروف الاقتصاد المصرى فى ذلك الوقت.

إذا كان قرار تعويم الجنيه قد حقق مكاسب كبيرة لعدد من الاشخاص ليس من الصعب معرفة أسمائهم فقد ترتبت عليه نتائج اقتصادية غاية فى السوء حيث ارتفع رصيد الديون المصرية.. كما ارتفعت قيمة الواردات.. وزادت قيمة خدمة الديون بالضرورة وارتفعت اسعار السلع المستوردة وكل هذه النتائج السيئة دفع الاقتصاد المصرى ثمنها مقابل بعض المكاسب التى حققها بعض الاشخاص وكان هذا هو اول نتائج الزواج الباطل بين السلطة ورجال الاعمال.

قضية تعويم الجنيه المصرى وما لحقته من أضرار وخسائر للاقتصاد المصرى والمواطن المصرى جريمة لا ينبغى أن تسقط بالتقادم ولو بعد مائة عام لأنها جريمة نظام فاسد وليست جريمة مسئول أخطأ.

● القضية الثانية التى ينبغى أن تفتح ملفاتها هى ما حدث فى تسويات البنوك مع رجال الاعمال المتعثرين.. كانت البنوك قد فتحت خزائنها لعدد من الاشخاص من رجال الأعمال لا يتجاوز عددهم مائة شخص فى ارض المحروسة حصلوا على مليارات الجنيهات بلا ضمانات وكان من السهل ان يقتحم احد هؤلاء اى بنك مصرى ويحصل على ما يريد والغريب فى الأمر أن هؤلاء كانوا يحصلون على قروض من عدد من البنوك وليس من بنك واحد دون تنسيق أو ضمانات.. كان رجل الاعمال يحصل على مليار جنيه من بنك و500 مليون من بنك آخر و300 مليون من بنك ثالث وكانت النتيجة ان وجدنا أشخاصا مدينين بثلاثة او خمسة مليارات جنيه لأكثر من بنك.. وكانت المفاجأة أن البعض منهم هرب والبعض الآخر تعثر وهناك من رفض السداد وبلغ حجم القروض المتعثرة فى عام 2003 ما يقرب من 300 مليار جنيه وأمام الموقف الضعيف للبنوك المصرية تنازلت عن مبالغ طائلة فى ظل تسويات مخلة حيث ضاع عليها - كما اكد طارق عامر رئيس البنك الاهلى فى احد البرامج التليفزيونية- اكثر من 100 مليار جنيه فى هذه التسويات.. والغريب فى الأمر أن 25 مليار جنيه من هذه القروض التى ضاعت كانت تخص 38 من رجال الاعمال المدينين للبنوك.

إن جريمة اهدار اموال الشعب فى البنوك بهذه الصورة الوحشية واحدة من اهم واخطر الجرائم التى لن تسقط ايضا بالتقادم لانها كانت تمثل جزءا من مدخرات المواطنين.

وسوف نجد من بين هذه الاموال الضائعة رموز الحزب الوطنى الذين سيطروا على الاراضى وتاجروا فى الدولار وحصلوا على ملايين البنوك بلا ضمانات. إن الشىء المؤكد أن وثائق كل هذه التجاوزات والتسويات ما زالت أصولها فى البنوك ويجب أن نفتح هذه الملفات لأنها ايضا لن تسقط بالتقادم.. وكانت كارثة تسويات البنوك من أسوأ نتائج الزواج الباطل بين السلطة ورجال الاعمال.

● القضية الثالثة هى ملفات برنامج الخصخصة وبيع اصول الدولة المصرية وانا أعلم ان هذا الملف مفتوح الآن فى مكتب النائب العام.. فى برنامج الخصخصة كوارث كثيرة سواء فى عمل لجان التقييم أو عمليات البيع أو تغيير الانشطة وتجارة الاراضى، خاصة أن ذلك كله قد تم فى حكومة رجال الاعمال فى عهد د. أحمد نظيف حيث تم إعلان الزواج رسميا بين الحكومة ورجال الاعمال وهو الزواج الذى انتهى مع ثورة 25 يناير التى أطاحت بالنظام كله.

لا أحد يعلم حتى الآن حجم الاموال التى حصلت عليها الدولة من بيع مشروعات القطاع العام فقد تفرقت هذه الاموال وصارت مشاعا بين القبائل.. كان تقييم ثمن هذه المشروعات اول الجرائم.. وكان تقسيط الثمن على عدة سنوات والسمـــــــــــــــــــــاح للمشترين بالاقتراض من البنوك المصرية بضمان المشروع جريمة أكبر.. ثم بعد ذلك كان توزيع ثمن البيع مابين خزينة الدولة.. والمعاش المبكر وتعويض العاملين فى هذه المشروعات.

لم تكن لجان البيع على درجة من النزاهة فى تحديد سعر بيع هذه المشروعات.. ولم يكن المسئولون الكبار بعيدين عن الشبهات فى الاخلال بقوانين المناقصات والمزايدات فقد تم بيع مشروعات كثيرة بالأمر المباشر.. وبعد ذلك كله فإن بيع هذه المشروعات لم يحقق للدولة الدخل المناسب.. كان رجل الأعمال يشترى مصنعا بخمسين مليون جنيه رغم أن قيمة معداته تزيد على مائة مليون جنيه وقيمة سعر الأرض تتجاوز مائة مليون أخرى ويقوم المشترى بطرد العمال وبيع المعدات وتقسيم الأراضى كمنشآت عقارية ثم يحصل على قرض من احد البنوك لسداد ثمن المصنع وهذا يعنى انه لم يدفع شيئا على الاطلاق بينما حقق مكاسب وارباحا تزيد على 300 مليون جنيه.

وقد حدثت كوارث أخرى، حين قامت الحكومة بتجديد واحلال عدد من المصانع ثم باعتها بأسعار اقل كثيرا من تكاليف عمليات الاحلال والتجديد.. حدث هذا فى مصانع لها امتيازات خاصة حيث تقع على مساحات هائلة من الاراضى كما حدث فى مصنع البيبسى كولا والمحالج والمطاحن والغزل والنسيج والزيوت والكتان والمراجل البخارية وقد بيعت هذه الأراضى كعقارات بأسعار خرافية.

لا أحد حتى الآن يعرف حصيلة بيع أصول الدولة المصرية فى برنامج الخصخصة هناك من يقول ان الحصيلة بلغت 35 مليار جنيه وهناك من يقول إن الحصيلة 85 مليار جنيه ولكن المؤكد أن عدد المشروعات التى تم بيعها قد تجاوز 100 شركة ومؤسسة ووحدة انتاجية.. حدث هذا رغم ان تقديرات البنك الدولى كانت تؤكد أن اصول القطاع العام المصرى تتجاوز قيمتها 500 مليار جنيه. كانت هناك دائما محاولات اخفاء للحقائق حول عمليات بيع المشروعات فى برنامج الخصخصة حتى تم الإعلان صراحة عن فشل هذا البرنامج ولكن بعد خراب مالطة.

هذه الملفات الثلاثة: تعويم الجنيه.. وتسويات البنوك.. وبرنامج الخصخصة كانت أهم وأخطر جرائم النظام السابق.. إهدار لقيمة الجنيه المصرى.. وضياع مدخرات الناس فى البنوك وبيع مستقبل الاجيال القادمة فى برنامج الخصخصة ومثل هذه القضايا لا يمكن أن تكون جزءا من الماضى فقط لأنها تركت لنا هذا الحاضر المؤلم وسوف تهدد مستقبل أجيال قادمة لن تترحم أبدا على من باعوا أصول الوطن واستباحوا ترابه المقدس ولم يكونوا على مستوى المسئولية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved