مصر والسعودية .. الشعوب قبل الحكام

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الثلاثاء 8 مايو 2012 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

تعرضت لقدر من الهجوم والنقد الجارح فى الأيام الأخيرة ــ ليس بمفردى ولكن مع آخرين ــ بسبب إدراج اسمى فى قائمة المسافرين إلى السعودية فى وفد ضم عددا من السياسيين والبرلمانيين والفنانين والكتاب وغيرهم. ولنترك جانبا أننى لم أكن فى الوفد أصلا لاعتذارى عن السفر (هذه تفاصيل غير مهمة فى ساحة الشائعات التى تسيطر على كل جوانب حياتنا) ونتوقف عند الموضوع نفسه، حيث جاء رد الفعل لقضية أحمد الجيزاوى ثم لسفر الوفد المصرى معبرا عن أزمة أعمق بين البلدين تداخلت فيها اعتبارات الاقتصاد والعمل مع الثقافة والسياسة.

 

أما من حيث العمالة المصرية فى السعودية، فللأسف الشديد أن يتم تصويرها فى بعض وسائل الإعلام كما لو كانت مجرد أعداد من الناس الساعين لاكتناز المال والذين يسىء وجودهم هناك إلى كرامة مصر واستقلالها، وهذا تصوير خطير ويجب التوقف عنده. العمالة المصرية جزء أساسى من العلاقة بين مصر والسعودية، والمصريون العاملون هناك يتراوح عددهم ــ وفقا للتصريحات الرسمية ــ بين مليون ونصف ومليونين، وهم يتميزون بانتشارهم الجغرافى فى كل أنحاء البلد، وبتنوع مستوياتهم الوظيفية من أكبر المناصب حتى أبسطها، وبتآلفهم مع نظام البلد فلا يعرف عنهم بشكل عام الشغب وإثارة المشاكل. هذه الجالية الكبيرة تساند بدورها عدة ملايين فى القرى والمراكز والمدن المصرية، وأعضاؤها يتحملون مصاعب العمل والغربة والوحدة من أجل توفير المسكن والتعليم والفرصة الكريمة لأسرهم. ولذلك فالحديث عن المصريين فى السعودية كما لو كانوا مرتزقة لا يدفعهم سوى المال والرغبة فى الاكتناز فيه إهانة وتعالٍ على تضحيات انسانية حقيقية، وعلى ما يشعر به الفلاح والعامل المصرى من فخر حينما يعود لبلده وقريته ويحقق لأسرته الراحة والأمان اللذين لم يعرفهما طوال حياته.

 

من جهة أخرى، فإن المصريين فى السعودية نجحوا ــ عبر سنوات طويلة من العمل الشاق ــ فى أن يصبحوا ليس فقط قوة عمل تذهب وتجىء، ولكن ركنا مهما فى الواقع الاجتماعى السعودى، وجزءا أساسيا فى نمط الحياة هناك. والمجتمع السعودى واقتصاده يعتمدان عليهم ولا يمكنهما الاستغناء عنهم. ولهذا أثر عميق على العلاقة بين الطرفين، إذ هى علاقة أكثر ندية وتكافؤ مما يبدو لنا أحيانا، يعتمد فيها كل طرف على الآخر ولا يملك الاستغناء عنه، وبالتالى فإن تصوير العلاقة على أنها مجرد عمالة مهاجرة تعتمد كلية على رغبة ونزوات أصحاب العمل فيه أيضا استخفاف واستهزاء بقيمة العامل المصرى ووزنه فى المجتمع السعودى وما يمثله لمصر من قوة ضغط حقيقية وليس موطن ضعف.

 

ثم إن العلاقة الاقتصادية تتجاوز بكثير مجرد العمالة المصرية المهاجرة، فالاستثمار السعودى صاحب المرتبة الأولى فى الاستثمار الوافد لمصر، وهو يتميز عن غيره بأمرين: الأول هو انتشاره فى كل مجالات النشاط الاقتصادى، زراعة، وصناعة، وسياحة، وتجارة، وعقار، ومصارف، وصناعات كبيرة ومتوسطة. أما الأمر الثانى فهو أنه بطبيعته استثمار متوطن، بمعنى أنه طويل الأجل، يستمر لسنوات وأحيانا لأجيال طويلة، بشكل يجعله أقرب فى طبيعته إلى الاستثمار الوطنى الذى يتحرك من مجال اقتصادى إلى آخر وفقا للفرص المتاحة والعائد عليها، ولكنه يبقى بشكل عام داخل حدود البلد ولا يبارحها إلا فى الظروف القهرية.

 

كذلك فإن النظر إلى العلاقة بين الطرفين على أنها مجرد تبادل واستغلال لمصالح اقتصادية ضيقة فيه تجاهل لحقيقة أن التجارة والاقتصاد والعمل تجلب معها تعارفا، وتآلفا، وتزاوجا، وعلاقات ثقافية واجتماعية وأسرية تتجاوز بكثير ما يمكن قياسه من تدفقات نقدية واستثمارات وأرقام لتحويلات المصريين من الخارج. وولع السعوديين بالقاهرة وبالمكوث ساعات طويلة على ضفتى النيل، وبالثقافة المصرية، وبالفن المصرى، كل هذه اعتبارات لا تعبر عن مصالح اقتصادية فقط ولكن عن علاقات انسانية وفى كثير من الأحيان عن روابط أسرية تتجاوز فى حجمها وعددها ما يربط المصريين بأى شعب عربى آخر فى الوقت الحالى. ولأن التأثير الثقافى بطبيعته طريق مزدوج، فلا شك أن مصر تتأثر ثقافيا أيضا بالتيارات السياسية والفكرية المحافظة ــ الوهابية والسلفية وغيرهما ــ السائدة فى السعودية.

 

وأخيرا فإن الناس كثيرا ما تتجاهل حقيقة أن المملكة العربية السعودية ليست بلدا صغيرا لا يتجاوز عدد أفراده بضع مئات الآلاف كما هو الحال فى بلدان خليجية أخرى، بل هو بلد كبير وشديد التنوع اجتماعيا وثقافيا، وفيه الثراء الفاحش وفيه فقر شديد، وفيه أقليات تسعى للحصول على حقوقها كاملة، وفيه صراع حقيقى بين الحديث والتقليدى، وفيه صراع آخر كامن على السلطة وسيطفو على السطح قريبا لا محالة. باختصار فإن السعودية ليست مجرد بئر بترول تضخ مالا، بل مجتمع عنده مشاكله وتناقضاته وصراعاته الداخلية، وفيه نخبة حاكمة تسيطر على موارد البلد وثرواته.

 

فى إطار ما سبق، وإذا كانت العلاقة بين مصر والسعودية فيها ندية، وفيها تبادل حقيقى للمصالح، وفيها منفعة للطرفين، وأواصر عميقة اجتماعية وأسرية، فما المشكلة إذن؟

 

المشكلة هى أن طبيعة التركيب السياسى للدول العربية تجعل النخب الحاكمة فيها تستأثر بتشكيل العلاقات بين الدول وتتجاهل مصالح الشعوب، وتقصر الحوار على أولى الأمر بين الطرفين، فتصبح الشعوب أسيرة للعلاقات السياسية والمصالح المتراوحة بين النخب، وليست طرفا فاعلا فى المعادلة. وفى تقديرى أن هذا الاحتكار الذى تمارسه النخب الحاكمة من الجانبين هو ما أفسد العلاقة بين المصريين والسعوديين عبر السنوات والعقود، فلم تكترث الخارجية المصرية بمصالح وأحوال المصريين هناك لأن العلاقة المهمة كانت دائما بين الحكام وليس بين الشعبين، والتعاون الاقتصادى بين البلدين لم يتم تخطيطه لمصلحة الناس بل لما يحقق مصالح المسيطرين على اتخاذ القرار، وسوء معاملة المصريين فى الخارج نتيجة طبيعية للصداقة والوئام اللذين يسودان بين علية القوم من الجانبين. هذه بالمناسبة ليست مشكلة مصر مع السعودية فقط، ولكنها كانت كذلك ولسنوات طويلة أساس العلاقة مع ليبيا مثلا، حيث كان الهدف أن تستقيم الصداقة والمصالح بين نخبتى الحكم ولا داعى للاهتمام بأحوال العمالة المصرية. وهكذا الحال مع مئات الآلاف من السودانيين الذين يقطنون مصر، حيث لا تسأل عنهم سفارتهم، ولا يدافع عنهم أحد طالما كانت العلاقة بين الحكام تحت السيطرة. وكذلك كان الأمر مع العراق وقت صدام حسين، حيث كانت صداقته برئيسنا السابق كافية وهى الهدف الرئيسى، فلم تكن هناك حاجة للنظر إلى أحوال المصريين هناك. نحن أمام ظاهرة واحدة متكررة، وهى اختزال العلاقة بين الشعوب فى ضمان التعاون والصداقة والمصالح المشتركة للنخب الحاكمة، ثم حينما تقع المشاكل بين تلك النخب أو الخلافات على أنصبة أو على مصالح، تتحول الشعوب إلى أوراق للتفاوض والمقايضة عند اللزوم.

 

وأعود إلى زيارة الوفد المصرى فى الأسبوع الماضى، والتى اعتذرت عنها ليس لعدم أهمية الوفاق بين الجانبين، بل لأن أسلوب الإعداد لها قد عبر ــ من وجهة نظرى ــ عن إعادة تكرار ذات النمط فى التعامل الذى يحصر الموضوع بين نخبتين ويستبعد من المعادلة الطرف الوحيد المعنى، وهو الشعب العربى فى الجانبين. الزيارة حققت ربما النتائج قصيرة الأجل التى كانت ترمى لتحقيقها، وهى لقاء ملك السعودية، وعودة السفير، وعودة الأمور إلى مجاريها السابقة، ولكنها أضاعت علينا فرصة استغلال المناسبة من أجل إعلان رفض الشعوب على الجانبين لاحتكار هذه العلاقة الثرية والحتمية من النخب الحاكمة وحدها والإصرار على ألا تعود العلاقة لسابق سيرتها بل أن تتطور إلى شىء مختلف وأفضل بكثير. أما أحمد الجيزاوى فلا يبدو أن أحدا يتذكره.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved