من تحديات ما بعد الثورة

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الأربعاء 8 يونيو 2011 - 8:55 ص بتوقيت القاهرة

 تحية صادقة أوجهها إلى الأستاذ الفاضل د. معتزبالله عبدالفتاح، تقديرا لمنهجه الذى يشمل العرض السلس للقضايا، وإيضاح أبعادها، ثم إشراكه قراءه أو مستمعيه فى مناقشة حولها، مقدما بذلك نموذجا راقيا للإسهام فى بناء دعائم الديمقراطية التى ينشدها الجميع، غير مكتفٍ بمجرد التغنى بفضائلها. وفى هذا السياق عرض فى الخامس والعشرين من مايو، على صفحات جريدة الشروق تحت عنوان «الرأى لكم»، عددا من التحديات وصفها بالاستثنائية وتحتاج إلى بت سريع يتجاوز النطاق الذى يندرج تحت عنوان «تسيير الأحوال» الذى تتحرك فيه أجهزة الدولة خلال المرحلة الانتقالية. وأتوقف هنا عند ثانى تلك التحديات الذى صاغه كالآتى:

(هناك مستثمرون حصلوا على أراضٍ وتسهيلات فى ظل النظام السابق كى يبنوا مصانع وفنادق واستصلاح أراضٍ. النظام السابق انتهى؛ فتم فتح هذه الملفات، وتم سحب الأراضى من أجل إعادة التفاوض على سعرها. توقف المستثمرون عن الاستثمار، لأن دراسات الجدوى التى قاموا بها كانت قائمة على افتراضات معينة، وعليها كانت هناك اتفاقات بعينها لبيع أو تصدير هذه السلع. أحد هذه المصانع كان مخططا له أن يبدأ العمل فى آخر هذا العام بطاقة تصل إلى نحو 5000 عامل وموظف. ولكن لتوقف الاستثمارات، هذا لن يحدث. إذن نحن نقول للمستثمرين: «بعضكم أو معظمكم فاسدون، وعلينا محاسبتكم، ولكن فى نفس الوقت، لا تتوقفوا عن الاستثمار والإنتاج». ما الحل إذن؟ الرأى لكم).

●●●●


ولنبدأ بمناقشة القضية فى عموميتها، دون تأثر بالحالة الخاصة التى تضغنا أمام معضلة ضياع 5000 فرصة عمل، وهو قدر ليس باليسير، وبخاصة فى الظروف السائدة التى تتصدر فيها عملية توفير فرص العمل قائمة الأولويات التى لا تحتمل التأجيل أو التغاضى.
وكما هو واضح من الصيغة السابقة فإن الأمر يتعلق بأحد أخطر جوانب الفساد التى ضربت فى قطاعات عديدة، والتى كانت لها انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطنى وعلى المجتمع بأسره. وعلينا أن نأخذ فى الاعتبار أن الغالب فى تلك الوقائع أن المستثمر المعنى حصل على أراض من الدولة (أى مملوكة للمجتمع بأسره) بأسعار تقل كثيرا عن قيمتها السوقية التى يفترض فيها أن تغطى على أقل تقدير ما خصص لها من أموال الشعب لاستصلاحها وتزويدها بالمرافق والبنيات الأساسية التى تجعل فى الإمكان استغلالها استغلالا اقتصاديا. وهذا يثير التساؤل عن الدافع إلى هذا التدليس فى معاملة يفترض فيها أن تكون مسجلة وموثقة بما يجعلها تحت بصر أى باحث أو مراقب. ولنستبعد من ذلك تلك الحالات التى تتم فى إطار معاملات ذات ضرورة ماسة فى تقدير الدولة، والتى قد تتم فيها الصفقة بتفضيل شخص أو هيئة بعينها على آخر قد يكون أحق وعلى استعداد لعرض سعر أفضل. تحضرنى هنا واقعة فى سنة 1976 عندما تساءل وزير اقتصاد مصر عن سبب تعنت أحد الوزراء المشاركين فى إعداد الهيئة التى كان قد اتفق على أن تقيمها دول الخليج البترولية كصندوق لمساعدة مصر بعد حرب 1973 فى إعادة بناء اقتصادها المنهك، رغم تحقيق رغبة الوزير المذكور فى حصول نجله العزيز على شقة على الكورنيش، وهو ما كان بتطلب آنذاك موافقة رسمية. ما تشير إليه تلك الواقعة أن من يحصل على ميزة عقارية يفترض أن يقدم شيئا مقابلها، وهو أمر قد يكون مبررا (على نحو ما) إذا كان المقابل يتعلق بمصلحة عامة. غير أن الفساد يكمن فى الحالات التى تكون المنفعة فيها شديدة الخصوصية بل وعلى حساب منفعة مجتمعية أكيدة يتم إهدارها.

●●●●


وحتى نتبين أبعاد هذه المشكلة نفرق بين الحالات المختلفة المنطوية على معاملات عقارية.
فهناك أولا حالة الأراضى التى يرجى استصلاحها لتدخل مرحلة الاستزراع وتضيف إلى الناتج القومى وتوفر وظائف فى القطاع الزراعى. وفى هذه الحالة توجد التزامات على الدولة لتوفير البنية الأساسية التى تربط الأراضى بباقى المناطق المأهولة، وإيصال مصادر المياه للرى وشبكات الصرف والطاقة الضرورية لكل من مرحلتى الاستصلاح والاستزراع. ولم تكن هناك مشكلة عندما كانت الدولة تقوم بعملية الاستصلاح حيث تصل الأرض إلى مستوى يسهل عنده فرض قيمة اقتصادية لها، ويخضع المستثمرون للأحكام العامة للدورة الزراعية القومية. وبانتقال مرحلة الاستصلاح إلى القطاع الخاص، خضعت كل حالة لظروفها الخاصة، حتى لا تتحول العملية إلى متاجرة بالأراضى، الأمر الذى تشتد خطورته إذا كان المستثمر أجنبيا. وتقتضى هذه الحالة تقييم المشروع فى ضوء الأهداف العامة للدولة، التى تشمل توفير منتجات زراعية وغذائية وتصديرية ونقل مجموعة سكانية من الأراضى المستغلة والمكتظة، وتطوير التكنولوجيات الزراعية. وبالتالى فالعبرة هنا بأهداف الدولة حاليا وللمستقبل وليس استرضاء مستثمر لا يهمه سوى الربح السريع وهو ليس من خصائص المشروعات ذات الأجل الطويل والآثار الخارجية التى تتضح بنظرة شاملة لا يملكها غير جهاز الدولة.

●●●●


الحالة الثانية هى التى تتعلق بالامتداد العمرانى، وقد يقتصر على إسكان يسهم فى حل اختناقات حالية أو مواجهة زيادات سكانية تتضاعف بفعل النمو الذى يتزايد عددا كلما زادت جملة السكان. ومعلوم أن النسبة الغالبة تتجه إلى الإسكان الاقتصادى والبعض يطلب إسكانا متوسطا والقلة هى التى لا ترضى بأقل من الإسكان الفاخر. غير أن الامتداد الأهم هو المتعلق بإنشاء مدن جديدة أو أحياء تشمل إسكانا بمرافقه الخدمية.

من هذا النوع مصر الجديدة فى بداية عهدها ومدينة الأوقاف ثم مدينة نصر التى أقامتها الثورة. وحينما بدأ المهندس الكفراوى بإعداد العدة لإسكان يغلب عليه الطابع الاقتصادى، إذا بالتجمعات السكانية تتحول إلى إسكان متميز، ثم طغت عليها المنتجعات التى جاءت تعبيرا عن طغيان مجتمع النصف بالمائة، وتستّرت بالسياحة ليُنتزع الساحل الشمالى وغيره من السواحل من الاقتصاد الوطنى فيصبح أوكارا تمارس فيها أمور تُحجب عن أنظار السوقة الذين يتعين عليهم تدبير عشوائياتهم بدون مرافق. ولأن هذه المنتجعات لا تمثل مصدر دخل يغطى كلفتها، كان لابد من بخس أثمان الأراضى، مقابل تقديم وحدات متميزة للمسئولين، سواء أفرادا يملكون قصورا فى الخارج، كقصر إبراهيم سليمان فى كندا المطل على المحيط ويعتبر مزارا سياحيا عالميا، أو يريدون الخروج من جحور نشأوا فيها، أو كانوا ينتمون لمؤسسات فى الدولة تريد لهم تميزا. وفى هذه الحالة يؤدى بخس ثمن الأراضى إلى رفع غير مبرر لأسعار العقارات، يعوض ما قدمه المستثمر من خدمات عينية ومالية، ويعكس ما تحقق لهم من احتكار، يساهم فى إشعال أثمان الأراضى والعقارات وعرقلة برامح الإسكان الشعبى. وفى هذه الحالة يصبح تصحيح شروط التعاقد مطلبا لسلامة الاقتصاد الوطنى حاليا ومستقبلا، وبخاصة عدم استنزاف ريع الأرض للاستثمارات المنتجة.

●●●●


الأمر الأخطر هو الأراضى التى تخصص لمشروعات إنتاجية داخل المناطق المأهولة كالمصنع الذى ألمح إليه د. معتز فى مقاله. والسمة الغالبة على تلك الحالات أن التصنيع هو ستار للمضاربة على عقارات. ولا يعتبر تصويب حالة أو حالات ضارا بعملية الاستثمار. بل إن العكس هو الصحيح لأن جودة الإنتاج لا تخطر على بال مثل هؤلاء المستثمرين. فالقضية ليست مجرد فساد فى معاملة، بل إزالة بيئة يعزف فيها المستثمرون الجادون عن المخاطرة بأموالهم وسمعتهم. وهم فقط سيطمئنون إذا تعاملوا مع أجهزة تحمى المخاطرة الاقتصادية من أن تتحول إلى مضاربات بالأراضى والأموال والأسهم والسندات. وعندئذ يطمئن المستثمر الصغير فيأتمنهم على مدخراته المحدودة التى هى كل ثروته التى يأمل أن تؤمن حياة كريمة له ولأولاده. ولهذا الأمر أهميته القصوى لجذب استثمارات عربية نشأت فى بيئة ريعية ضعيفة الإنتاجية. ومن أجل هذا كانت الدعوة لإنشاء منطقة استثمارية عربية التى أطلقها مجلس الوحدة الاقتصادية العربية فى 2001.

ولكن لهذا حديث آخر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved