تمردت المعلومة حتى تحررت

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 8 سبتمبر 2009 - 9:57 ص بتوقيت القاهرة

 كانت التعليمات صارمة وتقضى بألا نقبل دعوة لحفل استقبال أو عشاء فى سفارة بالقاهرة قبل أن نحصل على إذن من جهات الأمن العليا، لم نعترض، ولكن تسربت إلى نفوسنا مرارة. نحن الذين يبعثون بنا لنمثلهم فى الخارج حيث كل الناس أجانب يمنعوننا من مقابلة الدبلوماسيين الأجانب فى بلادنا.

مرت سنوات تعلمت فيها ما لم أكن أعلم فى السياسة وأخلاقياتها. شرح لى أحد الكبار خلال زيارة فى منزلى بمدينة كنت أدرس بإحدى جامعاتها، أن أفرادا فى الحكم كانوا يعتقدون أن الخطر الذى يهدد نظام حكمهم كامن فى جماعة المثقفين ومن على شاكلتهم، وأدركوا منذ اليوم الأول أن «المعلومة» هى زاد هؤلاء وسلاحهم.

صدر هذا الشرح عن الصديق كبير المكانة بعد أن حكيت له حكاية قصيرة. كنت طلبت من القسم الذى أدرس فيه أن تختص إحدى قاعات الدرس بموضوع حرب 1976، مقدماتها وتطوراتها ونتائجها الدولية والإقليمية والأسلوب الذى اتبعته القيادتان المصرية والإسرائيلية فى وضع قرار الحرب.

كان وراء اختيارى قليل من الخبث إذ كان ظنى أننى بالمعلومات المتوافرة لدى بحكم متابعتى «الدبلوماسية» للصراع بيننا وبين يهود إسرائيل ستتفوق ورقتى على كل الأوراق المقدمة حول الموضوع. ولحسن حظى كان الأستاذ أخبث، إذ طلب من الطلبة التنافس لحشد أوفر معلومات متاحة.

رحت بعدها أبحث عن المعلومات فى دوريات أكاديمية وصحف ووثائق منشورة ومذكرات سياسية من إسرائيل وفرنسا وأمريكا وغيرها مكتشفا أن المعلومات كانت مباحة للأجانب فى الخارج ومحرمة علينا فى الداخل.

وأذكر جيدا أنه بعد الحرب، وعندما تقرر إقامة مركز فى الأهرام لدراسات الصهيونية وفلسطين لجأت مؤسسة الأهرام إلى من يصدر قرارا استثنائيا يسمح للمركز باستيراد كتب ودوريات تناقش قضايا إسرائيلية. وجاء الإذن مرتفقا بشرط أن يقتصر دخول المكتبة على باحثين معدودين ومعروفين بالاسم.

* * * * *

أحكى هذه التجربة وأنا أقرأ عن الجدل الدائر فى أوساط الميديا فى الغرب عن التحولات الجارية فى هذا القطاع، أقرأ عن كسر احتكار المؤسسات الإعلامية العملاقة، وعن إفلاس العديد من الصحف الكبرى، وعن مدن كبيرة فى الولايات المتحدة أصبحت تخلو من صحيفة يومية، وأقرأ عن الانخفاض المتوالى فى عدد الصحفيين فى دول الغرب، وعن إلغاء وظيفة المراسل العسكرى وتخفيض عدد المكاتب الصحفية فى الخارج. تقول الإحصائيات إن الصحافة الأمريكية فقدت 15974 صحفيا فى عام 2008 واستغنت فى الشهور الستة الأولى من العام الحالى عن 10000 وظيفة.

ومع ذلك أقرأ عن حرية أوسع فى ممارسة العمل الصحفى وديمقراطية أكثر فى المهنة وأساليب جديدة فى التحرى والكتابة. وتأملت بإمعان فى عبارة وردت فى مقال مايكل ماسينج فى مجلة نيويورك لعروض الكتب (13 أغسطس) تعلن أن ما يحدث حاليا من تحولات فى مهنة الصحافة ليس أقل جسامة وأهمية مما حدث عندما اخترع جوتنبرج المطبعة.

نعرف إن اختراع المطبعة مهد للقضاء على احتكار الكنيسة ورجال الدين للمعلومة. هؤلاء حبسوها ومنعوا خروجها إلى الناس، وما سمحوا بخروجه خضع لصياغة تناسب أغراضهم، وأهم هذه الأغراض أن تظل جماهير الشعب غافلة. نعرف الآن أن اختراع «الإنترنت» يقوم بالدور الذى لعبه اختراع المطبعة. إذ لا جدال فى أن الإنترنت فك أسر المعلومة حين جعلها رهن إشارة من أصبع، وجعلها مصدرا جديدا من مصادر ثقة مستخدم الميديا بنفسه. فالمعلومة التى صارت فى حوزته، أو على بعد لمسة من أصابعه، لم يستجد فى طلبها، ولم يهن نفسه من أجلها، تأتى إليه غير هامسة أو مستترة وتأتى مزودة بالقرائن وعديد المؤشرات التى تسمح له بالتوثق منها ومن مصادرها.

* * * * *

يجب أن نعترف أننا إن كنا نتمتع بقدر ولو زهيد من الحرية فالفضل يعود إلى حركة تحرير المعلومة ربما أكثر مما يعود إلى حركات تحرير أخرى أكثرها انتكس.

يتحدثون عن أن الصحافة تعود، كما كانت فى بدايتها، إلى أولوية دور الفرد محررا كان أم قارئا. عاد الحافز الفردى فى العمل الصحفى يمثل موقعا ظل منكمشا لعقود عديدة. ضاقت الفرص، وستضيق أكثر، أمام الصحفى الذى يقيم سمعة صفحته أو صحيفته على علاقته بمكتب وزير أو مسئول، فالمعلومة لم تعد تطيق أن يحتكرها فرد مهما علا قدره أو تحبس فى مكان مهما بلغت هيبته. وانتهى أو كاد ينتهى عهد الصحفى المتمهل المنتظر أن تهبط عليه «المعلومة»، فالمعلومات تحررت كما النساء ولن تقبل العودة إلى الأسر أو القمع..

الصحفى، فى عصر المعلومة المحررة، لا ينسى ولا يجب أن ينسى أن هناك «مدونين» يصل إنتاجهم الخبرى مباشرة إلى القارئ أسرع، وربما أكفأ، عن طريق الإنترنت. يبقى على الصحفى فى عصر المعلومة المتحررة أن يكون، كما يقول إيزرا كلاين، متابعا لا مكررا، شارحا لا معلقا، متحررا تحرر المدون، قدر ما يمكنه، من قيود الدولة وأصحاب المصالح وقوى الضغط، وأن يكون أشد حرصا على سمعته لارتباطه بمهنة لها أخلاقياتها والتزاماتها وبمؤسسة تخضع أحيانا لضرورات بقائها واستمرارها وبعصر ينكشف فيه زيف الخبر أو النقص فيه بعد ثوان من نشره.

* * * * *

تحررت المعلومة وبقى أن يتحرر الإعلام والإعلاميون.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved