على هامش الاحتفال العربى فى البيت الأبيض: أين فلسطين فى دولة يهود العالم؟

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 8 سبتمبر 2010 - 2:02 م بتوقيت القاهرة

 فى وقت واحد، عاش العرب حالة من الفرح الغامر بانتصارين مجيدين تحققا معا:
● الأول: إعلان الإدارة الأمريكية، بلسان نائب الرئيس جو بايدن، ومن بغداد، كما نقلت بعض الفضائيات العربية مباشرة وبالصوت الحى والصورة الملونة، أن قوات الاحتلال الأمريكى للعراق ستغادره مستبقية فيه خمسين ألفا فقط من جنودها، لتوطيد أمن «الاستقلال» و«الوحدة» و«الديمقراطية» فى هذه البلاد ذات التاريخ العريق التى شطرها الاحتلال كيانات متواجهة (بالسلاح!) فوق براكين العنصرية والفتن الطائفية والمذهبية.

● أما الانتصار العربى الثانى فقد تم فى البيت الأبيض فى واشنطن وبرعاية الرئيس الأمريكى الأسمر ذى الجذور الإسلامية (!) باراك أوباما، وبحضور الرئيس المصرى حسنى مبارك وبعض أهل نظامه، بمن فيهم نجله جمال، والملك الأردنى عبدالله بن الحسين وبعض حاشيته، لإعلان العودة إلى التفاوض على التفاوض بين رئيس حكومة إسرائيل ــ دولة يهود العالم (رسميا الآن) ورئيس «السلطة» فى بعض الأرض الفلسطينية التى لا تزال محتلة، ولا يزال شطرها الآخر فى غزة «متمردا» له سلطته «المستقلة» تحت غطاء من الصواريخ الإسرائيلية، وفى ظل حصار يكاد يمنع الهواء عن المليون ونصف المليون من رعاياها.

فى البيت الأبيض بدا المشهد غير المسبوق تاريخيا، والذى يصعب تخيل تكراره مرة أخرى، «أجمل من أن يكون حقيقيا».. تماما مثل ذلك الذى تابعه العرب ــ صامتين ــ على فضائيتهم فى بغداد وبينما حملة أعلام جيش الاحتلال الأمريكى يتبادلون راياتهم ذات النجوم بين العائدين إلى بلادهم بعد إنجاز «التحرير»، والباقين فى أرض الرافدين توطيدا لأركان «استقلال» الدولة العراقية..

أما على الأرض المغسولة بدماء الشهداء فى كل من فلسطين المحتلة والعراق تحت الاحتلال، فلم يكن ثمة ما يستدعى الاحتفال بهذه الانتصارات المأساوية..

وأما على امتداد المنطقة العربية فلم تخرج تظاهرة غضب واحدة، وإن كانت أطلقت تصريحات هائجة متلفزة وخطب حماسية قوية النبرة حد الصراخ فى لقاءات جماهيرية مغلقة لم يسمع بها ــ فى أى حال ــ ذلك الرهط الرئاسى المطعم بالتقاليد الملكية من نمط «حيوا الزعيم» الذى احتشد حول مائدة الإفطار الرمضانى فى البيت الأبيض بواشنطن، وهم يحتفلون بالاتفاق المتكرر على إعادة السلطة الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات على ما تبقى من أرض لم «يعمرها» بعد المستوطنون الوافدون من أربع رياح الدنيا على حساب حقوق أهلها فيها.

وأما فى «الضفة» فقد جردت السلطة حملة اعتقالات واسعة شملت كل «المشبوهين» الذين يحتمل أن ينفذوا «اعتداءات» على المستوطنين الذين سلبوهم أرضهم بالقوة، (كما فى الخليل) فى حين لم يجد مقاتلو حماس من يقاتلونه فى غزة الحرة تحت حصارها الذى بالكاد يستثنى الشمس والهواء.

حسنا.. وماذا بعد الاحتفال المهيب فى البيت الأبيض؟!
الجواب: العودة إلى المفاوضات على ما تبقى من الأرض التى تراها إسرائيل هبة إلهية لليهود جميعا، وهى قد «استعادتها» بقوة السلاح، بشهادة المشاركين فى الاحتفال المهيب فى البيت الأبيض، وبينهم من كان مقاتلا فاستراح وأراح، وبينهم من لم يقاتل يوما إلا لحماية عرشه من أولئك الذين أخرجوا من أرضهم الفلسطينية فجاءوا إلى «مملكته» يهددونها فى وجودها وعبر احتمال اعتبارها «الوطن البديل».

من فاته حضور الاحتفال أبرق مهنئا وأصدر بيانات التأييد ممهورة بالختم الملكى مع الدعاء بالتوفيق، ناسيا أو متناسيا « المبادرة» التى جاءت أمريكية ثم صيرت عربية قبل أن يطويها النسيان مع مقررات القمم العربية التى تبنتها وكادت تجعلها نصا مقدسا فى صلب ميثاق جامعة الدول العربية..

من مدريد التى تم القفز من فوقها باتفاق أوسلو، فى مثل هذه الأيام من عام 1994، ومن البيت الأبيض الذى شهد الإنجاز التاريخى برعاية الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون إلى طابا فإلى شرم الشيخ، ومن واى ريفر إلى أنابوليس إلى مكوك التفاوض على التفاوض الموفد الأمريكى ذى الابتسامة البلاستيكية جورج ميتشيل: ها هى ساعة الختام تدق نغمات حزينة على وقع أذان الإفطار فى العاصمة الأمريكية، مع الإعلان بأن رئيس الحكومة فى دولة يهود العالم سيتابع المفاوضات المقدر لها ان تمتد لعام طويل مع رئيس السلطة المطعون فى شرعيته، لاسيما بعد التمديد لنفسه فى غياب التفويض الذى عز الحصول عليه إلا من جماعته المستفيدين من السلطة على حساب القضية.

لقد آن أن يرتاح أهل السلطة المتعبون من أثقال القضية التى تستعصى على التحجيم والتصغير، وكذلك على الطمس والتغييب، لكى يحرروا أنفسهم وجماعتهم من أعباء النضال والمحاسبة على التقصير فى الإنجاز: فالفلسطينيون فى واقعهم السياسى الداخلى، وفى ظل الفرقة العربية التى كسرت الحرم عن التفريط والتفرد والصفقات الثنائية التى تعقد فى ليل، ليسوا مهيئين لأكثر مما نالوا! لقد حاولوا طويلا.. فاوضوا على التفاوض حتى عز الكلام، فتركوا الأمر لصاحب الأمر يقرر فيه ما تقضى به حكمته، وها هو قد لبى فأقام الاحتفال الحاشد الذى يعوض بفخامته عن خلوه من المضمون!

ليرحم الله الشهداء الذين تساقطوا مطرا على امتداد ثمانية عقود أو يزيد، ليحموا حقهم فى أرضهم وفى كيان سياسى لهم فيها، بعدما انهارت أحلام التحرر والوحدة والعودة إلى «الوطن» بحدوده «الطبيعية»: أوليست فلسطين جنوب سوريا؟!

ليرحم الله الشهداء ممن شردهم الاحتلال الإسرائيلى الذى تجاوز حدود فلسطين إلى أراض عربية فى دول قائمة، وكان الأمل معقودا على قدراتها التى كانت وعدا بالنصر فضربتها الهزيمة وأخرجتها من الميدان، ولم يتبق لها غير أن تشهد على انطفاء القضية وقرع جرس الانصراف للمناضلين الذين أتعبهم العمر وانتحار الأحلام باليأس.

لقد انتهى زمن الثورة، وطويت أعلام منظمة التحرير التى عاشت طوال السنين وضعا ملتبسا: فهى الإطار أو الحاضنة الشرعية للقضية قبل أن يتولى أمرها «الثوار» لتوحيد البندقية والقرار.. وها هم الثوار قد رحلوا، ومن تبقى منهم أضعف من أن يتحمل أثقال التحرير، فلماذا المكابرة؟! «وها هم أهل النظام العربى قد سبقونا حتى بتنا نثقل كواهلهم ونعذب ضمائر من تبقى عندهم ضمائر، فلماذا لا نرتاح ونريح»؟!

لقد دقت ساعة النهاية لحقبة مجيدة من عمر النضال العربى، عموما، والفلسطينى خصوصا تحديدا، وإن كان هذا لا يعنى، بأى حال، أن «القضية» سوف تدفن تحت ركام الاتفاقات المثقلة بالتواقيع السامية لرؤساء دول عظمى وقيادات دول متوسطة، فضلا عن الاتحاد الأوروبى، وبشهادة أهل النظام العربى حاضرين..

هى ليست الخاتمة، بالتأكيد ولكنها نهاية مرحلة مجيدة تستحق أن يتلاقى فى تأبينها، والاطمئنان إلى تساقط أعلامها، أباطرة وملوك ورؤساء دول ليشهدوا تهاوى المتعبين من طلاب السلطة الذين لم يكونوا يوما من رجال الثورة طلبا للتحرير.

على أن الذى جرى ــ فى تزامن مقصود ــ فى البيت الأبيض فى واشنطن، وفى «قاعدة الفاو» قرب بغداد، يستحق الاحتفال الأمريكى بالانتصار المزدوج: فالاحتلال الإسرائيلى يعلن، فى حضور بعض أهل النظام العربى وبموافقتهم، يهودية دولته على أنقاض الحلم بتحرير فلسطين التى جىء بسلطتها البتراء صاغرة ــ ومع ذلك تغطى وجوه ممثليها الابتسامات العريضة ــ لتوقع صك الاستسلام، وقد أحاط بها ــ للمواساة ــ السابقون إلى مثل هذا الإنجاز.

بالمقابل كان الاحتلال الأمريكى للعراق يعلن اندثار الدولة فى «أرض السواد» ويباشر إخراج عسكره منه مطمئنا إلى من نصبهم عليه رؤساء وقادة ووزراء ــ وقد جاء بهم من المنافى، قريبة وبعيدة، وبعد اغتراب بالجسد والفكر طال أمده ــ سيمضون إلى الحرب الأهلية بأقدامهم، وهو قد هيأ لها الأرض تماما، فملأها بالمتفجرات الطائفية والمذهبية العنصرية والصراعات على زعامة قاتلة للوطن ودولته.
لكنها ليست النهاية.

إنه ختام فصل من فصول الصراع المفتوح على هوية هذه الأرض وحقوق شعوبها فيها، وهو فصل مأساوى حقا، لكنه ليس الخاتمة لسبب بسيط: أن العدو سيبقى فى الوجدان عدوا ومقاومته واجبة، شرعا ووطنيا وبكل المعايير،

وأبسط شاهد هو المواطن المصرى ( الطبيعى) أو المواطن السورى، أو خاصة المواطن اللبنانى فضلا عن الفلسطينى الذى يتعذر عليه أن يكون مواطنا ويستمر حصاره فى خانة «اللاجئ» حتى فى أرضه، أو كل عربى (وكل مسلم) قاتل ضد «اسرلة» فلسطين منذ عشرينيات القرن الماضى وحتى اليوم، والذى يقمعه أهل النظام عن مواصلة القتال لتحرير بلاده ذاتها، الاحتفال فخم... لكن فخامته لا يمكنها طمس أهدافه الحقيقية، ولا ختم القضية بالشمع الأحمر واعتبارها منتهية.

والشعب الذى استمر يناضل لثمانين سنة لن يجد فى واقعه ما يقنعه بأن يلقى السلاح ليغدو لاجئا فى وطنه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved