«العملاق الكبير الودود».. قصيدة حب للإنسان

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 8 سبتمبر 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

يطلق ستيفن سبيلبرج الطفل الكامن فى داخله إلى أبعد مدى فى فيلمه الجديد البديع «the BFG»، وهو اختصار لجملة تعنى ترجمتها إلى العربية «العملاق الكبير الودود».


طالما انحاز هذا المخرج، الذى يوصف بأنه أكبر طفل فى العالم، إلى الإنسان والإنسانية، فعلها فى «قائمة شيندلر» وفى «ميونيخ» معا، بل إن أحد أسرار نجاحه هو تلك الصفات الإنسانية التى يضفيها على مخلوقاته الغرائبية إلى درجة أنه يختلط عليك الأمر: هل «إى تى» كائن فضائى يريد العودة إلى كوكبه؟ أم أنه طفل تائه يريد العودة إلى منزله؟ ولا فرق فى النهاية، مثلما تخبرنا أفلام هوليوود بين «الوطن» و«البيت«؛ لأن كلمة «home» تعبر عنهما معا.


فيلم «العملاق الكبير الودود» المقتبس عن كتاب للأطفال من تأليف رولد دال، يبدو لى أكثر اتساعا من ذلك، على الأقل فى نظر سبيلبرج، وكاتبة السيناريو الراحلة ميليسا ماتيسون، شريكة نجاحاته السابقة، والتى أهدى إليها الفيلم. العمل يجسد مغامرة فانتازية مدهشة لطفلة تدعى صوفى، تلتقى عملاقا طيبا للغاية، لا يأكل البشر، ولكنه يخاف منهم، فى الرحلة الممتعة الملونة بألوان الحلم، ما يمثل قصيدة حب وتعاطف جديدة مع الإنسان، وفيها أيضا تحية لفكرة الحلم الإنسانى، بالإضافة إلى اعتبار العالم أكثر ضخامة مما نتخيل أو نعتقد.


صوفى الطفلة اليتيمة، تُقدم منذ البداية باعتبارها شخصية مختلفة، تنام كل زميلات الملجأ الذى تعيش فيه صوفى، ولكنها تستيقظ متوقعة أن تظهر الأشباح فى قلب الظلام، تهتز بالطبع عندما يظهر العملاق، وتصرخ عندما يضعها على كفه، ولكنها تتماسك، بل وتحاول أن تهرب لتعود إلى الملجأ/ المنزل، رغم أنهم يعاقبون الأطفال هناك بطريقة مؤلمة، يحبسونهم فى قبو مظلم مع الفئران.


العملاق ليس بشرا، وإن كان يبدو كذلك شكلا وهيئة، إنه كائن استثنائى طوله 7 أمتار، ولكنه يعد قزما بالنسبة إلى تسعة عمالقة فى منتهى الشراسة، يأكلون لحوم البشر، دون إحساس بالذنب، يقول العملاق فيما بعد لصوفى إنه لم يولد من أب وأم، كما أن حياته تبدو بلا نهاية، وإن كان يلمس زحف التجاعيد على وجهه.


العملاق ليس بشرا، ولكنه يحمل صفات إنسانية تماما، إنه كائن رقيق تتعاطف مع مخاوفه من الناس، يخشى بجدية أن يقبضوا عليه، ويضعونه فى حديقة بين غرائب الطبيعة والمخلوقات، كما أنه يتعثر أحيانا فى التعبير عن نفسه بالكلمات، ويمتهن عملا غريبا يرتبط بالأحلام.


نكتشف عمل العملاق من خلال رحلة يقوم بها مع صوفى، والتى لا ينقصها الخيال، إنهما يصطادان الأحلام، ثم يصنفها العملاق، ما بين أحلام جميلة، وأخرى ليست كذلك، ثم يضعها فى آنية زجاجية هائلة فى بيته، ويقوم أيضا بأخذ الأحلام، ونفخها فى عقول النائمين، فيمنح البشر عالما موازيا ممتعا، ويغذى لديهم الخيال، ويعمق من مشاعر البهجة والسعادة.


تتحدد بسرعة معالم الصراع: العملاق الطيب الودود وصوفى الصغيرة فى جانب، والعمالقة التسعة، الذين يستمتعون بأكل لحوم البشر فى جانب آخر، صوفى هى التى ستحث العملاق على عمل خطة للتخلص من العمالقة التسعة، وهى التى ستقترح اللجوء إلى الملكة إليزابيث، لكى تساعد فى إنقاذ البشرية من العمالقة الأشرار، ولن يتم ذلك إلا عبر خلطة أخلام يصنعها العملاق الطيب، وينفخها فى عقل ملكة بريطانيا.


يمنح لقاء صوفى والعملاق بالملكة إليزابيث الفيلم مشاهد باذخة الطرافة والفكاهة: طفلة الملجأ، والعملاق القادم من أرض العمالقة، يدخلان قصر باكنجهام، ومن خلال مساعدة قوات الملكة، وبمعاونة صوفى والعملاق الذى يقود الجميع إلى مكان العمالقة التسعة الأشرار، تتخلص البشرية من الوحوش، لن يقتلوهم، ولكن سيتركونهم فى جزيرة نائية، وسيلقون إليهم بالحبوب والخضراوات، فإما أن يغيروا من طبعهم فى التهام لحم البشر، وإما أن يموتوا من الجوع.


صوفى تعود إلى الملجأ، العودة إلى البيت/ الوطن من أيقونات هوليوود، الطفلة لم تنسَ العملاق، إنه يستطيع أن يسمع النحل والنمل وغناء النجوم، ويمكنه أن يسمع همسات صوفى عندما تناديه، أو ترسل إليه عبارات الشوق والحب، هو لم يتركها إلا بعد أن اصطاد لها حلما، وأغلق عليه زجاجة كبيرة، وأطلق عليه «حلم صوفى»، لعله كان أصلا حلما كامنا قى قلبها، يمثل رغبتها فى المغامرة والاكتشاف، ويمثل حبها للعالم وللإنسان، ويمثل قدرة الشخص الصغير على أن يوسع حياته من خلال الخيال.


رحلة صوفى والعملاق تنتصر للخير، وتكاد تعتبر الأحلام ضرورة أساسية للتغيير، العملاق هو القوة الخارقة الطيبة المتعاطفة مع الإنسان، ولكن الإنسان «صوفى والملكة إليزابيث والقوات البريطانية» هو الذى يجب أن يغير، فى أوقات كثيرة من الفيلم، لم أستطع أن أمنع نفسى من استدعاء فكرة القوة الخيرة العملاقة التى ترعى الإنسان بمعناها الدينى، ورغم وجود هذه القوة، ورغم انحيازها الكامل للخير، إلا أن الكرة تعود إلى ملعب البشر، لكى يقودوا المعركة ضد الشر، الذى يبدو مثيرا للضحك، ضعيف العقل والتصرف، مجرد قوة غاشمة حمقاء، لا تستطيع أن تفيد أحدا، لا نفسها ولا غيرها.


نحتاج حقا إلى قوة هائلة تساند الخير، ولكننا نحن من يجب أن نفعل، قبل صوفى كان هناك طفل صغير علم العملاق الكتابة والقراءة، ولكن العمالقة التهموه، ربما لأن الطفل لم يفكر فى التعاون مع العملاق، فى التخلص من الشر، ممثلا فى الوحوش. معنى الحكاية فى جوهره فى ذلك التحالف العظيم بين قوة عظيمة تمثل الخير، وبين البشر الطيبين، لكى يكون العالم أكثر أمنا وجمالا، العملاق فى الواقع هو الذى سيعلم صوفى أن الموجودات لها صوت يمكن سماعه، وهو الذى ستكتشف من خلاله أهمية الأحلام، ورغم ابتعاده عنها فى النهاية، إلا أنه سيظل هناك، سيظل موجودا، ويمكن استدعاؤه ليحضر، ومعه نظرته الحانية، وعيونه المراقبة المتعاطفة.


سبيلبرج يحقق هنا مزيجا بديعا بين شخصية ديجيتال متحركة تمثل العملاق الكبير الودود، صنعتها تعبيرات وحركات الممثل الفذ مارك ريلانس، وبين طفلة موهوبة ورائعة الحضور اسمها روبى بارنهيل تمثل صوفى الذكية، شخصيتان تحققان معنى التحالف سالف الذكر، يأخذ الواقع حضوره بشخصية الملكة إليزابيث، ويأخذ الخيال حضوره القوى من خلال عالم أرض العمالقة بكل تفاصيله.


دور سبيلبرج كمخرج فى صنع هذه اللوحة التى تبدو مكوناتها متنافرة، ومع ذلك لا نشعر بأى تنافر، موسيقى جون ويليامز البديعة، منحت شريط الفيلم هذا الغلاف الملون، وأعطت الرحلة معادلا سمعيا، وكأننا أمام سيمفونية تحمل عنوان «مغامرة طفلة من أجل الإنسان»، حتى استخدام تقنية البعد الثالث، كان واعيا وغير مزعج بالمرة».


إنه طفل كبير اسمه سبيلبرج، صنع فيلما عن طفلة اسمها صوفى، لكى يستدعى فى داخلنا من جديد معنى وأهمية ومسئولية أن نكون بشرا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved