تدشين الصين أمريكيا

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 8 أكتوبر 2015 - 7:25 ص بتوقيت القاهرة

يشهد التاريخ على زيارات قام بها زعماء استحقت موقعا فى سجلاته تحت عنوان علامات فارقة. نعرف أن زيارة كليوباترا ملكة مصر إلى روما واحدة منها، ونتصور أن زيارة «تشى» الرئيس الصينى الأخيرة للولايات المتحدة والأمم المتحدة واحدة أخرى. لا يهم عدد الاتفاقات التى عقدت خلال هذه الزيارات، أو عدد اللقاءات، أو نوع الاستقبال حفاوة كان أم نفورا. إنما يهم ما خلفته الزيارة من واقع جديد ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية ولكن أيضا فى منظومة العلاقات الدولية.

* * *
تابعت الزيارة باهتمام القارئ المتخصص والمراقب المستمتع بعمق وجاذبية التطورات الجارية على قمة العالم، واستطاعت أن أدون عددا من الملاحظات.
بدأت التدوين مبكرا. بدأته خلال مراحل وضع الترتيبات النهائية للزيارة لدى الطرفين، الصينى والأمريكى. واستمر خلال الرحلة «الجانبية» التى قام بها الرئيس الصينى إلى ولاية واشنطن عند أقصى شمال غرب الولايات المتحدة، وخلال مراسم الاستقبال الرسمية فى العاصمة الأمريكية، وتوقف التدوين مع نهاية رحلة جانبية أخرى بمغزى تاريخى إلى نيويورك حيث مقر الأمم المتحدة. أما الملاحظات، وهى كثيرة وتفاصيلها كثيرة وممتعة، فأعرضها هنا فى عجالات، كل عجالة منها تستحق أن تفرد نفسها على صفحات وليس سطور، باعتبار أن كل واحدة منها تفسر الكثير من تطورات الماضى القريب أو تؤذن بما هو قادم، والقادم فى اعتقادى كثير وهام.
الملاحظة الأولى، لم يعد من قبيل الحلم أو الوهم الحديث الجاد عن أن «ثنائية» جديدة تزحف لتهيمن من جديد على نظرية العلاقات الدولية وفنون ممارسة السياسة على مستوى القيادة الدولية. لقد بذل الطرفان، الصينى والأمريكى، جهودا هائلة على امتداد الثلاثين عاما الماضية، لتأجيل الوصول إلى هذه الحالة الصريحة، حالة المنافسة بين عملاقين، وأعتقد أن جهودا لا تقل أهمية ما تزال تبذل على مستويات متعددة، لمنع أن يتحول الحديث الأكاديمى والاستراتيجى عن هذه المنافسة وتوقعاتها إلى واقع نهائى ومحتوم. بمعنى آخر، وكما كتب تيم سومرز فى ورقة من أوراق شاثام هاوس، هناك خشية كبرى من أن تتحول النبوءة إلى حقيقة ونفاجأ ذات يوم بأن قيادة العالم، والعالم من تحتها، عاد ثنائى القطبية.
سمعت الرئيس تشى يقولها ويرددها خلال الزيارة، سمعته يقول إن الصين واعية لهذا الاحتمال وهى حريصة على أن تظل المنافسة قائمة على قاعدة «الفوز للجميع»، بمعنى أن لا طرفا يكسب والطرف الآخر يخسر. أستطيع هنا، وإن من بعيد، أن أثق فى صدق الجانب الصينى، وإن كان أحد لا يستطيع التيقن من قدرة الطرفين على احترام هذه القاعدة والالتزام بها.
مصدر ثقتى هو هذا العمل المتواصل والإبداع الملفت من جانب الطرفين، الأمريكى والصينى، لصنع علاقة من نوع خاص بين البلدين. تخيلت المنشغلين بصنع هذه العلاقة أشبه ما يكونون بعمال مهرة مستخدمين أصابعهم الماهرة وهم منكبون على نسخ قماشة تفاصيلها عديدة ودقيقة وخيوطها حريرية قوية وطولها وعرضها بطول وعرض هذا الكوكب الذى نعيش فيه، وربما أطول وأعرض. تكفى متابعة ما تفرزه مراكز البحث فى كلا الدولتين ودول أخرى وما تسطره أقلام مئات المعلقين والمحللين فى جميع أنحاء العالم، لنعرف المدى الذى وصلت إليه «الثنائية الاستراتيجية» فى الهيمنة على الفكر السياسى، وبخاصة فكر العلاقات الدولية. أستثنى بطبيعة الحال وللأسف الشديد الجماعات الدبلوماسية والسياسة الخارجية فى مختلف أقطار العرب وفى صدارتها جماعة السياسة الخارجية المصرية بمكوناتها الأكاديمية والدبلوماسية وأجهزة صنع القرار .
الملاحظة الثانية، ما يزال خارج الأوان معرفة الأسلوب الذى سوف تعتمد عليه الصين فى ممارسة القيادة، خاصة ما يتعلق بتشكيل تحالفاتها الإقليمية والدولية. جربنا أسلوبين، الأسلوب الروسى الذى يعتمد على الهيمنة، سواء فى أشكاله الأيدلوجية أو العسكرية أو باستخدام التدخل والقوة المباشرة، وجربنا الأسلوب الأمريكى المعتمد على الإقناع باستخدام المحفزات الناعمة كالضغوط السياسية والحصار بأنواعه والتجارة والاستثمارات بأنواعها، وكذلك بالهيمنة الأيديولوجية والتدخل المستتر وأحيانا المباشر.
لا أستطيع القول باليقين المعقول، بأن الصين قد اتخذت قرارها فى هذا الشأن، إذ أن التطورات الإقليمية وبخاصة فى منطقة بحر الصين الجنوبى وأنماط علاقاتها بدول الإقليم مثل فيتنام والفيلبين وإندونيسيا لا تكشف بوضوح عن أن الصين فضلت أسلوبا على آخر، ما تطلبه الصين علانية، بعد أن كان خافتا، هو اعتراف دول الإقليم بأن الصين تجاوزت التعامل انطلاقا من وضعها كدولة إقليمية كبرى إلى وضع اللاعب الدولى الكبير الذى يستحق من اللاعبين الأصغر احتراما أعظم، ويفرض عليهم الحذر الشديد فى علاقاتهم بلاعبين دوليين آخرين من خارج الإقليم. ومع ذلك يمكننا، مستندين إلى تاريخ الصين حتى نهاية القرن الثامن عشر، استنتاج أن الصين سوف تسلك مع دول الإقليم سياسة تقوم على مزيج من «الهيمنة الأخلاقية» والتبعية الاستراتيجية، وهو المزيج الذى قد تعجز عن استخدامه بالكفاءة اللازمة أو بالدرجة ذاتها فى علاقاتها بأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
* * *
كتبت فى هذا المكان قبل عام تقريبا عن استعدادات الصين لتدشين منظومة جديدة للسياسة الخارجية. الآن أصبحت واثقا من أن الحزب والدولة فى الصين قد توصلا إلى وضع «أوراق موقف» تجاه قضايا بعينها وبنية النظام الدولى وبنى إقليمية. قرأنا مثلا ورقة ــ موقف عن الأمم المتحدة، وسمعنا عن ورقة تتعلق بأفريقيا وأخرى بأمريكا اللاتينية.
الورقة عن الأمم المتحدة تعلن بوضوح، أن الصين تعتبر نفسها وللمرة الأولى دولة عظمى مسئولة، وهى تنوى أن تمارس مسئولياتها الدولية بما يتناسب ومكانتها فى العالم. تقول الصين، إن أكثر من ٦٠٠.٠٠٠ مواطن صينى يخدمون فى الخارج فى مؤسسات المعونة الصينية. هذا الرقم له مغزى لا يصح تجاهله والحديث عنه يطول. ولكن أهميته هنا تأتى فى اطار دور الصين فى التنمية ومكافحة الفقر، الصين سوف تشارك بفعالية أكثر فى اعمال مجلس الأمن وفى جهود حفظ السلام. انتهى زمن الصين، كدولة كبيرة دائمة العضوية فى مجلس الأمن، ولكنها فى نظر الآخرين «دولة كبيرة تتدرب» طول الوقت. هذه الدولة المتدربة لم تستخدم حق الفيتو سوى ٩ مرات، ست منها فى عام ٢٠٠٠، بينما يسجل على المملكة المتحدة انها استخدمت حق الفيتو ٢٤ مرة والولايات المتحدة ٧٨ مرة.
الصين تتعهد الآن أنها سوف تتعامل بإيجابية أكثر مع مسئولياتها الأقليمية، قررت أن تقيم صندوقا للتنمية بميزانية ٢ مليار دولار، وتخصيص مليار أخرى لقوات حفظ السلام، ومنح الاتحاد الأفريقى مبلغ ١٠٠ مليون دولار معونة عسكرية، وسيكون شغلها الشاغل فى الأمم المتحدة، حسب وثائقها الجديدة، القضاء على الفقر.
ومع ذلك، وفى سعيه لتأكيد أملها فى تأمين الاستقرار الدولى وعدم تعريض المؤسسات الدولية لأخطار التقلبات السياسية، أعلنت الصين نية حكومتها المحافظة على بنية الأمم المتحدة، ونفت أن يكون بين خططها كدولة أعظم خطة إقامة بنى أممية جديدة. بكلمات أخرى سوف تفرض الصين رؤيتها لمستقبل الأمم المتحدة، من خلال سلسلة ممارسات واتفاقات متدرجة، وأظن أن لديها فى جعبتها الكثير من الأفكار، خاصة ما يتعلق بدورها كدولة عظمى بمهمة محددة وهى مكافحة الفقر، ودليلها على صدق نواياها التأكيد المتكرر على أنها نجحت فى إخراج أكثر من ٤٣٩ مليون مواطن صينى من تحت حزام الفقر.

* * *
كثيرة هى الملاحظات على الزيارة التى دشنت مكانة الصين فى النظام الدولى. أناقش عددا آخر منها فى مقال قادم أو فى أكثر من مقال يهمنى بشكل خاص الإشارة هنا إلى بعضها، مثل الشرق الأوسط حيث لم يكشف النقاب خلال الزيارة أو بعدها عن وجود «ورقة موقف» عن الشرق الأوسط، كالأوراق عن أفريقيا وأمريكا اللاتينية والأمم المتحدة. أغلب الظن أنه لا توجد ورقة، وإن الشرق الأوسط مازال يحتل أدنى مرتبة فى أولويات السياسة الخارجية الصينية.
ومن الملاحظات الجديرة بالاهتمام فى كتابات قادمة ما كشفت عنه الزيارة بخصوص الإجابة عن السؤال «من يحكم الصين؟». أتصور أن الكثير منا يدرك الآن حجم الدور الذى يلعبه قطاع رجال الأعمال فى التأثير على السياسة الخارجية للصين، وإن كنت أحرص على أن لا أتعجل بالحديث عن دور فاعل وعضوى فى عملية صنع هذه السياسة.
هناك أيضا الملاحظة المتعلقة بمشكلة الشباب فى الصين. من المهم مناقشة هذه المشكلة فى إطار العدد الهائل من الصينيين العاملين فى قطاع المعونات للخارج، وفى إطار آخر أشد أهمية وهو الشيخوخة المبكرة التى أصابت الأمة الصينية، وبدأت تؤثر سلبا على برامج الصعود والقوة، بل وقد تكون وراء الرهانات الغربية على دور أكبر للهند فى المستقبل باعتبارها دولة شابة. هذه وغيرها ملاحظات، وبعض مؤشراتها سبق أن أعلن عن نفسه قبل الزيارة التى قام بها الرئيس تشى إلى الولايات المتحدة، مازالت تحتاج إلى مناقشة مستفيضة تتيح الفرصة لقراء العربية للبدء فى عملية تعارف صينى ــ عربى أو شرق أوسطى، وهى العملية الغائبة تماما فى الوقت الحالى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved