السيناريوهات المؤلمة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الثلاثاء 8 نوفمبر 2016 - 11:30 م بتوقيت القاهرة

لا يصح استبعاد أى سيناريو بالتحليق فى الدعايات، فالآنين الاجتماعى صوته مسموع فى كل مكان تحت وطأة التدهور الفادح فى مستويات المعيشة وعجز قطاعات متزايدة عن تلبية الحد الأدنى من احتياجاتها.
كما لا يجوز الادعاء أننا بقرب الخروج من عنق الزجاجة، أو أن الإجراءات الاقتصادية المؤلمة تنير ضوءا فى نهاية نفق الإخفاقات الطويل.
كيف وصلنا إلى الأزمة المستحكمة؟
من يتحمل المسئولية؟.. وبأى قدر؟
إذا لم تكن هناك إجابة تقنع فإن الأزمة سوف تتمدد تداعياتها إلى حيث لا يتوقع أحد.
بعض أسبابها تعود إلى إرث الماضى وما جرى فيه من نهب منظم للمقدرات الاقتصادية بزواج الثروة والسلطة والفساد المنهجى، وبعضها الآخر تعود إلى الحاضر بسياساته وأولوياته وغياب أى مسار على شىء من التماسك والوضوح.
بقدر المراجعة يمكن التصحيح، وأول شروط أية مراجعة عند الجذور التخلى عن الخيارات التى أدت إلى أسوأ أزمة اقتصادية على امتداد التاريخ المصرى الحديث كله.
لا يمارى اقتصادى واحد تقريبا أن الإجراءات المؤلمة «اضطرارية»، وأنه كان يمكن تجنبها فى أوقات سابقة وليس الآن، فالدورة الدموية الاقتصادية كادت أن تتوقف والاقتصاد أوشك على الانهيار.
عندما نصل إلى مثل هذه النقطة فإنه الفشل يقينا، وأى كلام آخر لا يساعد على تجاوز الأزمة المستحكمة، أو وضع حد لأية سيناريوهات خطرة على سلامة المجتمع نفسه.
رغم التمهيد الطويل للإجراءات، التى وصفة بأنها «مؤلمة»، لم تكن الدولة مستعدة بأية خطط ممسوكة لمواجهة الموقف، أو جاهزة بأية درجة مقنعة من الكفاءة، وبدت بعض التداعيات كأنها مفاجآت كاملة.
حسب الخبرة المصرية على مدى عقود فإن رفع أسعار الوقود يفضى إلى ارتفاعات مماثلة بباقى السلع والخدمات.
فى ساعات قليلة جرى رفع أسعار الخضر والفاكهة والألبان والسمن والأدوية والأسمدة وتذاكر السفر بالطيران.
وفى غياب أية رقابة جدية بدت التصريحات الرسمية أقرب إلى الأمنيات من السياسات، فقد زادت تكاليف الانتقال من مكان إلى آخر داخل العاصمة، أو المحافظات، بنسبة (٥٠٪)، بينما البيانات الرسمية تتحدث عن أنها بين (١٠ ـ ١٥٪).
المعنى أن تقديراتها عشوائية، أو أن يحدث ما يحدث من مشادات ومشاحنات بين المواطنين والسائقين تنذر بسيناريوهات من الفوضى تتراجع فيها هيبة الدولة ويصبح الاحتكام الوحيد لقوة القبضات.
إذا ما تذكرنا ردات فعل الأمهات الفقيرات عند شح لبن الأطفال فإن هناك احتمالا تتبدى خطورته الآن- وفق تقارير صحفية ـ من إغلاق وحدات غسيل الكلى وعدم توافر الأدوية الضرورية لملايين المرضى، وهذه جريمة قتل مؤكدة ضد أية قيمة أخلاقية وإنسانية تقوض أية شرعية.
من التوقعات شبه المؤكدة ـ حسب خبراء متخصصين مصريين ـ ارتفاع نسبة التضخم إلى أكثر من (١٨٪)، وفى تقديرات أخرى قد تصل إلى (٢٥ ـ ٣٠٪) فى النصف الأول من عام (٢٠١٧).
ذلك يعنى بالضبط أن الأيام المقبلة قاسية وتداعياتها منذرة ومفتوحة لكل سيناريو.
بحسب التقديرات المتواترة فإن السعر العادل للجنيه المصرى أقل مما هو عليه الآن بعد تحرير سعر صرفه، وقد يستغرق وقتا طويلا نسبيا حتى يستقر على وضع طبيعى.
لم يكن بوسع البنك المركزى ضخ ما يلزم من دولارات فى الأسواق لسد الفجوة بين المطلوب والمعروض، التى تصل فى بعض التقديرات إلى نحو (٢٠) مليار دولار سنويا، خشية استنزاف رصيده من العملات الأجنبية.
رغم التصريحات المتكررة من أن برنامج الإصلاح مصرى مائة بالمائة ـ حسب رئيس الوزراء- إلا أن تزامن قرارى تحرير سعر الصرف بالكامل ورفع الدعم عن الوقود من الشروط المعلنة لمديرة صندوق النقد الدولى «كريستين لاجارد»، للحصول على قرض الـ(١٢) مليار دولار.
هناك من اعتبر رفع الدعم عن الوقود إنجازا بذاته وتحرير سعر الصرف عبورا جديدا دون أن يكلف نفسه بالنظر إلى الوجوه التى فزعت من انهيار حياتها والآنين الذى ينذر بغضبه.
القضية ليست نظريات تتلى وأيديولوجيات تتصارع بقدر ما هى بشر فى محنة وشعب أغلبيته تكاد تفقد ثقتها فى مستقبلها.
أول سيناريو محتمل، تحول الآنين إلى فعل، فتندلع ثورة جياع بلا تخطيط مسبق، أو مواعيد محددة.
بالطبيعة فإنها عشوائية، غاضبة وجامحة، قد تنشأ بالمصادفات أمام فرن خبز أو مستودع غاز، أو بسبب احتجاج على ممارسات أمن.
عندما يسكب وقودا على أرض، فإن أول عود ثقاب كاف لإشعال حرائق ممتدة.
قد يفلت الجوع عن أى عقل، فتحرق القاهرة مجددا وتنهب المتاجر العامة والخاصة وينتهك أى أمن وكل استقرار.
لا تطلب من جائع أن يتعقل، ولا تدعو من لا يجد قوت يومه أن يصبر، ولا تأمل فى تفهم من لا يجد علاجا يبقيه على قيد الحياة.
ثانى سيناريو محتمل، أن تميل كتل حرجة فى المجتمع إلى تجنب الفوضى وتعمل على التهدئة العامة حتى لا يخسر البلد مستقبله فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة.
بمعنى أن تبدى تعقلا لا تبديه الدولة نفسها ولا إعلام التعبئة.
يساعد ذلك على تهدئة الاحتقان العام غير أنه لا يمنع بالضرورة أية انفجارات مفاجئة.
لا أحد بوسعه أن يضع خطا فى الهواء يطلب من الجوعى والمتضررين ألا يتجاوزوه.
هذا وهم كامل، لكن من الممكن بالوسائل السياسية توسيع نطاق الكتل الحرجة، التى تمنع أية اهتزازات من أن تتحول إلى زلازل وأية رياح من أن تتحول إلى عواصف.
لكل شىء شروطه ومن بينها، رفع المظالم السياسية بالإفراج دون إبطاء عن الشباب المعتقل وعدالة توزيع الأعباء والتقشف الصارم والملموس فى مؤسسات الدولة، ومحاربة الفساد بالإجراءات لا التصريحات.
بقدر اتساع المجال العام ينخفض مستوى الخطر.
وبقدر حرية نقد السياسات التى أفضت إلى الفشل يمكن أن تتسع بالتدريج آفاق الأمل فى المستقبل.
فلا شرعية تتأسس على يأس ولا قدرة على أية مواجهة للأخطار المحتملة عندما تغيب القواعد الدستورية والديمقراطية.
ثالث سيناريو محتمل، ارتفاع منسوب الجريمة الجنائية عن معدلاتها الحالية، فمع الجوع المفرط يدخل إلى ساحتها مجرمون جددا، أو بالأحرى من دفعتهم الظروف القاسية إلى السرقة بالإكراه للحصول على ما يفى بعض احتياجاتهم.
قد تتطور الظاهرة المزعجة إلى توحش للجريمة المنظمة، وقد يعجز الأمن الجنائى عن مواجهتها بازدياد أعدادها.
ذلك أقرب إلى النزيف الداخلى فى بنية المجتمع، قد يبدو السطح هادئا بينما ما تحته ينذر بانهيارات.
رابع سيناريو محتمل، توفير بيئة اجتماعية حاضنة، بدواعى الضجر واليأس من أى إصلاح، لجماعات العنف والإرهاب.
وذلك خطر وجودى على سلامة المجتمع وقدرته على التعافى.
فى أى مدى منظور لا توجد فرص كبيرة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والتعافى من تبعاتها الخطرة، غير أنه يمكن بناء توافقات عامة على قاعدة احترام الدستور وفتح المجال العام لحوار جدى يحصن البلد فى وقت خطر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved