الفوضى المسلحة تستولد «الشرق الأوسط الجديد»

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 8 ديسمبر 2015 - 11:25 م بتوقيت القاهرة

تعيش منطقتنا حالة من الفوضى المسلحة فى ظل صراع دولى يكشف ضعف أهلها العرب إلى حد الغياب عن القرار والركض وراء سراب التسويات أو مشاريع الصفقات التى تستهدف مستقبلهم فى كياناتهم السياسية التى اتفق على استيلادها فى «غيابهم» أو من دون مشاركتهم قبل ما يقارب المائة عام، وفى قلب احتدام الحرب العالمية الأولى 1914 ـ 1919.
يتبدى، الآن، الشعب الذى كان واحدا وكأنه قد غدا شعوبا، وتفسخت هويته القومية لتنبثق مجددا هويات عرقية ودينية فتحيى أعراقا كانت قد اندثرت أو تكاد ولغات كانت قد انحسرت أمام اللغة العربية، ليس فقط باعتبارها اللغة الرسمية فضلا عن كونها لغة الأكثرية الساحقة، بل أساسا لأن «لغتهم» قد فقدت وظيفتها فى ظل «الدولة القوية لكل حاملى هويتها» وباتت أثرا ثقافيا آتيا من الماضى يتم حفظه كتراث أكثر منه توكيدا للانتماء إلى «قومية» أخرى، بالمعنى السياسى للكلمة. أى أنه «تنوع داخل الوحدة».
فى المشرق استولدت «الدولة» قيصريا فى معاهدة سايكس ـ بيكو بين البريطانيين والفرنسيين، مستبطنة خلافات جدية على الحدود، وداخل كل «دولة» بغض النظر عن «الهوية العرقية» لأهلها، وباستغلال للنقمة على المستعمر العثمانى القديم الذى صار تركيا من دون أن يتخلى كليا عن أطماعه فى بعض أرض سوريا والعراق.
غداة انفجار الحرب العالمية الثانية، وتحديدا فى العام 1938، أقدمت فرنسا، التى كانت منتدبة على سوريا، بالتنازل لتركيا عن إقليمى أو سنجقى كيليكيا واسكندرون وهما بعض الأرض السورية، حتى لا ينحاز الأتراك إلى المعسكر الألمانى ـ الإيطالى... وهكذا خسرت دولة سوريا بعض جغرافية كيانها المستحدث.
بالمقابل رفض البريطانيون مطالبة تركيا بضم الموصل العراقية إلى أرضها، لأن خبراءهم كانوا قد اكتشفوا أو أنهم «اشتروا» اكتشاف النفط فى العراق، وتحديدا فى منطقة الموصل من صاحبه الخبير الأرمنى مقابل خمسة فى المائة من أسهم «شركة نفط العراق» التى مدت الأنابيب عبر الأراضى السورية إلى مدينة طرابلس اللبنانية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط.
أما شبه الجزيرة والخليج التى كانت شواطئها الساحلية تحت النفوذ البريطانى مع تطلع أمريكى إلى الشراكة فيه ولو بنسبة ما، فلسوف يتم التقاسم نهائيا عشية وقف الحرب العالمية الثانية بالضربة الأمريكية الذرية لليابان، وتطلع الأمريكيين إلى الخزان الهائل للنفط فى السعودية، وقد تمت الصفقة مع الملك ـ المؤسس عبدالعزيز آل سعود، فوضع الأمريكيون أيديهم على نفط السعودية ووزعوا بعض الحصص فى ثروات مشيخات الخليج العربى، التى كانت تحت النفوذ البريطانى، على حلفائهم الأساسيين فى الحرب، وإن هم احتفظوا بالنصيب الأعظم فيها.
بمعنى آخر فإن آبار النفط (ومن بعد الغاز) هى التى رسمت حدود «الدول» فى شبه الجزيرة العربية، فمدت السعودية «أرضها» مقتطعة بعض أرض اليمن فى حرب وصلوا فيها السعوديون قرب صنعاء ثم انسحبوا مكرهين لأنهم «تجاوزوا الحدود». بينما استولدت على ساحل الخليج مشاريع الدول القائمة الآن: الإمارات العربية المتحدة (من الساحل المتصالح) مع اختراق لحدود سلطنة عمان التى حيدت (ولا تزال محيدة) وإن ظل النفوذ البريطانى (تحت المظلة الأمريكية) مسلما بها مع التسليم بالحكم للسلطان الذى تنتهى عائلته إلى النسب الشريف برغم أن المذهب السائد فيها هو «الأباظية» الذى يراه بعض البحاثة قريبا من «الخوارج» وإن نفى عنه أهله هذه التهمة.
***
ها هى الفوضى المسلحة تسود، مرة أخرى، هذه المنطقة العربية التى أعطيت بعد زرع الكيان الصهيونى فيها، إسرائيل فى العام 1948، اسم «الشرق الأوسط»، بما ينفى عنها هويتها الأصلية ويفتح الباب لصراع الهويات، واستيلاد «روح استقلالية» لدى الأقليات.
إن دولتين عربيتين مركزيتين فى هذا المشرق مهددتان الآن بالتقسيم أو التفتيت أو ـ فى أحسن الحالات ـ بالفيدرالية أو الكونفيدرالية على أساس عرقى أو لغوى، هما سوريا والعراق، فى استثمار متأخر لتكوينهما التاريخى الذى يضم، كما فى كثير من الدول الأخرى فى سائر أنحاء العالم، أقليات عرقية أو دينية عاشت على امتداد مئات السنين متآخية مع الأكثرية فى إطار جامع بين ركائزه الدين واللغة، وإن تعددت «هويات» الحاكم الذى كان يستظل راية الإسلام، عربيا كان أو كرديا أو تركمانيا أو تركيا.
يمكن أن تضاف إليهما اليمن التى فرضت عليها حرب تفتقر إلى التبرير المنطقى ـ إذا ما استبعدنا الرغبة فى الهيمنة المباشرة، مما أحيا فى أجوائها مشروع تقسيمها إلى دولتين، فى ظل خطر جدى يتهددها مستقبلا فى كيانها نتيجة تغلغل «القاعدة» و«داعش» عميقا فى جنوبها، الذى استولدته النزعة الاستقلالية «دولة» فى العام 1967، لم تعش طويلا، فاهتزت بعد «حاميها» الاتحاد السوفييتى فانهارت ـ بالحرب مع صنعاء ـ بعد انهياره مباشرة واستعادتها دولة الشمال تحت شعار توحيد اليمن الذى صدعته الحرب السعودية أخيرا، مما يفتح الباب أمام احتمالات شتى ليس بينها وجود «دولة مركزية قوية» فى اليمن بشمالها والجنوب.
فى ظل هذه الأوضاع المضطربة والمفتوحة على المجهول، عاد النفوذ الأجنبى، ومن ضمنه التغلغل الإسرائيلى، يفرض وجوده على المنطقة جميعا الممتدة بين البحرين الأبيض المتوسط والأحمر... فالأساطيل الحربية، بحرية وجوية، تزدحم فى مياه البحرين وبينهما وإلى جوارهما، وأساطيل الطيران الحربى، الروسى والفرنسى فضلا عن الأمريكى تملأ سماء هذه المنطقة العربية وتنهمر صواريخها وقذائفها المدمرة على أسباب العمران فيها، تارة باسم دعم الأنظمة القائمة فيها، أو اعتراضا عليها، وطورا باسم مقاتلة «داعش» الذى ما زال يملك المبادرة فى أكثر من جبهة، لا سيما فى العراق... فضلا عن قدرته على الضرب خارج «المشرق» كما يظهر واقع ليبيا، حيث تسود الفوضى المسلحة فى ظل خلافات القوى السياسية المستولدة حديثا فيها... كما ان إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء يقوم دليل على سيف «داعش» الطويل، فضلا عن «حروبه» الصغيرة، بالتوازى مع «حروب القاعدة» فى بعض أنحاء القارة الافريقية.
***
صحيح أن جيوشا أجنبية برية لم تنزل إلى الأرض العربية، حتى الساعة، لكن قرار العديد من الدول العربية المعنية لم يعد حرا بالمطلق ومستقلا بالكامل... فدمشق التى طلبت، بداية، مساعدة إيران مباشرة، والتى ذهب إليها مقاتلو «حزب الله» من لبنان كنجدة إضافية، هى التى طلبت المساعدة الروسية التى جاءتها عبر الأسطول الجوى (كما عبر القصف بعيد المدى وانطلاقا من شواطئ بحر قزوين الروسية)... كذلك فإن سماء العراق تكاد تكون ميادين تدريب لأساطيل الجو الأمريكية ـ البريطانية ـ الاسترالية ـ الكندية.. وقد انضم إليها أخيرا الأسطول الفرنسى فى تظاهرة عسكرية استعراضية تقدمها الرئيس الفرنسى فرنسوا هولاند، بزعم الرد على ضربات «داعش» الإرهابية التى استهدفت باريس فى قلبها، وعبر نواد رياضية واجتماعية، وبهدف قتل أكبر عدد ممكن من المدنيين إرهابا للدولة الفرنسية، بل وللغرب كله الذى يبدو الآن على حافة قرار خطير: المشاركة فى هذه الحرب بالأسلحة كافة، وأهمها العمليات الخاصة فضلا عن الغارات بالطيران انطلاقا من مطارات محلية (فى سوريا والعراق) أو من حاملات الطائرات الراسية فى البحر الأبيض المتوسط الذى حلم العرب ـ ذات يوم ـ بأن يجعلوه بحيرة عربية، ومن أسف فإنه الآن بحيرة لغيرهم ومن ضمن هذا الغير العدو الإسرائيلى..
* * *
إن «الشرق الأوسط العربى» يكاد يختفى الآن، وباتت الأسئلة تتركز على مصائر دوله التى يرى البعض أنها استولدت قيصريا قبل مائة عام، وفى صفقة بريطانية ـ فرنسية لم تعترض عليها أمريكا، خصوصا وأنها كانت تستبطن مشروع الكيان الإسرائيلى الذى لم يتأخر الإعلان عنه إلا سنة واحدة وجاء عبر وعد بلفور (سنة 1917).. وبالتالى فإن «دوله» هذه لم تثبت أهليتها للحياة، ولابد من إعادة النظر فى «حدودها» ثم فى طبيعة أنظمتها وهل تكون «فيدرالية» أم «كونفيدرالية» أم يجرى تقسيمها دولا شتى!
إن العراق غائب ومشغول بمصيره، حتى إشعار آخر، تدور فيه حروب شتى، معلنة أو مضمرة، وتجهد تركيا فى أن تتغلغل فيه مستغلة نزعة كردية إلى «الاستقلال» مع خطر تحوله إلى «الانفصال» فى دولة مستقلة، فضلا عن «ظلامة أهل السنة» التى يمكن أن تتبلور فى المطالبة بدولة كونفيدرالية من ثلاثة كيانات: شيعى وسنى وكردى..
كذلك فإن الحرب المفتوحة فى سوريا وعليها، والتى تكاد تبدأ سنتها الخامسة ترخى ظلالا سوداء على مصير الدولة المركزية الواحدة الموحدة فيها... وترتفع فى أنحاء عربية مختلفة أصوات تطالب بدولة فيدرالية أو حتى كونفيدرالية تراعى أصول «المكونات» و«الأعراق» المختلفة فيها.. وإن ظل مثل هذا الاحتمال معلقا على تطورات هذه «الحرب» التى تدخل هذه الأيام منعطفا حاسما قد تتقرر نتائجه خلال فترة قد لا تكون طويلة.
فى هذه الأثناء تتبدى إسرائيل وكأنها وحدها «الدولة» فى هذا الشرق الأوسط الجديد الذى بشرت به كونداليزا رايس قبل سنوات... خصوصا وأنها ـ بهذه النسبة أو تلك ـ شريكة، ولو فى الجو، لغارات الطيران الروسى على أهدافه فى سوريا، وهذا ما مكنه من المشاركة فى غارات لحسابه على بعض مناطقها أخيرا، وبالتأكيد فى ظل قدر من التنسيق مع الأسطول الروسى.
أما لبنان فمشغول بالانتخابات الرئاسية فيه، ومكافحة «النصرة» التى تجد من يساندها عربيا (قطر مثلا) إلى حد تقديم الوساطة للإفراج عن بعض جنوده الذين كانوا أسرى لديها، و«داعش» الذى لم يعثر على وسيط صالح معه للإفراج عمن تبقى من جنوده رهائن لديه..

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved